كتب - علي الشرقاوي:
كلما تمعنت في تجربة خالد الشيخ اللحنية، أقتنع أكثر وأكثر، أننا أمام تجربة غاية في التفرد والتميز والاختلاف، تجربة تكشف أمامك كما من الحيوية والفعل المتخيل المتراكض في الشارع المحلي بصورة خاصة والشارع الإنساني بصورة، فهذا الفنان الصادم ـ بما يطرحه من أفكار عبر موسيقاه المتماسكة والمتدفقة والسلسة، يعيدك إلى ذاتك بموسيقاه الكونية التي تتحاور فيها الأشياء، فهناك حوار بين السماء والأرض وهناك حوار بين البحر واليابسة وهناك حوار بين الذات والآخر، وهناك حوار بين الأنا وكل ما على هذه الأرض من مخلوقات. وهذا هو ما أسميه، على الأقل بيني وبين نفسي، العمل الغنائي الدرامي الملحمي.
الملحمة، كما يعرفها أكثرنا، هي قصة شعرية طويلة مليئة بالأحداث غالباً ما تقص حكايات شعب من الشعوب في بداية تاريخه وتقص عن تحرك جماعات بأكملها وبنائها للأمة والمجتمع.
الملحمة حكاية بطولية تخبر عن حركة جماعات أو حركة الشعوب وحركة القبائل وهي نموذج إنساني يحتذي به، يفعل بحياته وسلوكه ما يمكن أن يطمح المرء لتحقيقه. قد تحتوي الملحمة على أساطير قد تدخل الأسطورة في نسيج الملحمة ولكن لا تتداخل الملحمة مع الأسطورة فالملحمة شيء والأسطورة شيء آخر حيث إن الفرق الجوهري بين الأسطورة والملحمة هو أن أبطال الأسطورة من الآلهة أما أبطال الملحمة فهم من البشر.
ملحمية بالموسيقى الكونية
إن الأعمال اللحنية الدرامية التي تعامل معها الفنان خالد الشيخ في العديد من الأعمال التلفزيونية توضح لنا الإمكانيات المختلفة التي يقوم بتلحينها ـ لكي تصل الصورة المكثفة لطبيعة الروح الجماعية في تلك الأعمال. أنها تصور الحركة الداخلية في المجتمع، سواء كان هذا العمل الدرامي يشتغل على أحداث قديمة أو فتنازية أو معاصرة.
الفنان خالد الشيخ من أهم الملحنين الذين تعاملوا الكلمة بصورة مغايرة لمن سبقه من الملحنين في البحرين والخليج، انه يتعامل مع الكلمة، أنه هو من كتبها ونغمها ونطقها، الكلمة عند خالد تدخل إلى فلبه، ثم تتحول وتتجول في دمه، إلى أن تخرج بصورة أخرى، تحمل نكهته الخاصة، لذلك فأنت تشعر أن خالد يعطي لكلماتك روحاً، تطلقها من جسدها إلى مساحات غير محدودة.
فهو قبل أن يلحنها يتذوقها داخلياً، يشعر بطعمها، يتحسسها حرفاً حرفاً. ويهدم ما لا يراه مناسباً، ليعيد صياغتها بأسلوبه الخاص به.
البداية بالعزف على العود كجوقة متكاملة
إن الاستماع إلى خالد الشيخ وهو يعزف على العود، يخرج المتلقي من جلده، ليأخذه بعيداً عن المكان والزمان، يأخذه إلى آماكن جديدة لم يعرفها ولم يدخلها من قبل. خالد الشيخ وقت العزف لا يقسم على الأوتار، بل أنت تسمعه كمن يستمع إلى جوقة كاملة. تشعر أن الإيقاعات هي من صلب العزف. خالد الشيخ في لحظة عزفه لا يحتاج إلى من يصاحبه في الإيقاع. فالريشة تكفي لتؤدي كل الأدوار.
وإذا ما خرج إلى لحن آخر، لا تشعر بأي نشاز أو ما يوقفك أمامه.
ملحمية المقدمات التلفزيونية
ربمــا يلاحظ الكثيرون أن تجربة خالد الشيـــخ التي وصل إليها وحولها إلى مقدمات درامية ملحمية، ما كان لها أن تبرز بهذه الصورة لولا الخبرة الطويلة والتجربة التي عاشها في العديد من الأعمال المسرحية، ولا أذيع سراً إن قلت إن خالد الشيخ هو الفنان البحريني الوحيد الذي لحن أغاني معظم المسرحيات الطفاية في البحرين، وكانت بدايتي معه في مسرحية (حمامة نودي. نودي) من إخراج حسن عبدالرحيم، ثم تتالت الأعمال لمسرح أوال، منها ليلة والذين لمسرح حمد الشهابي وديره العجاب ووطن الطائر لمسرح أوال، ثم حكاية بوبي وخليجنا بز الخير لمدرسة بيان، وآخرها كما أذكر مسرحية النحلة والأسد.
هذا الكم من الإلحان والخبرة والتجربة، كلها قادت بخالد الشيخ أن يقدم أعمالاً ملحمية للتلفزيون، منها مقدمة (اعيال بو جاسم) وأغاني مسلسل حسن ونور السنا ومسلسل (ملفى الأياويد) ومسلسل سعدون ومسلسل نيران ومسلسل السديم، إضافة إلى الملحمة البحرينية الأكبر وهي معرض وجوه الذي جمع في قلبه الشعر والموسيقى والأداء والمسرح والفن التشكيلي، بحيث مثلت تجربة معرض (وجوه) تجربة مبتكرة، ليس في البحرين فقط، إنما على مستوى الخليج والوطن العربي. ربما في العالم أيضاً.
يقول الناقد الراحل محمد البنكي تحت عنوان (حكاية خالد الشيخ) إنه مبدع دلالات. وهذه سمة شخصية خاصة مستقلة عن قدرته الفنية وإن تدخلت في خدمتها، ومن هذا الجانب تشتغل العلامة معه بإفراط في ثيمة تكوينية ومزاجية خاصة تجد جوهرها في فكرة التحول: النموذج البدئي الذي يحكم رؤى خالد الشيخ كذات تفعل في مجمل الحياة المحيطة بها. ويمتلك خالد حساسية عميقة في التقاط السمتين معاً: القدرة على بث الدلالات والقدرة على الالتقاط المرهف للدلالات المبثوثة من قبل الآخرين وهو ما يجعل خالد الشيخ بؤرة تحولات دائمة عن طريق طبيعته التمثيلية التي تضمن للجمهور استهلاك ضخم لكم كبير من العلاماتي تمثله خالد ويعيد إنتاجه في يسر وسهولة. ولعل هذا هو أيضاً مصدر الانفعالات المصدومة تجاه خالد الشيخ لدى قطاع عريض في كل مرة، كون هذا الهدير التحولي لا يكف عن الانسلاخ والتجدد، وهو لذلك غير قابل للقراءة لدى شاشات البعض، أو أنه قابل لقراءة ذاهبة باتجاه إساءة التفسير كموقف سهل ومبقي على آليات التأويل التي في الرصيد المستقر والمقاوم.
«وجوه» في عالم الشيخ
يقول قاسم حداد لمجلة المشاهد السياسي – لندن، وفي حوار مع نوري الجراح:
* لقد جاء خالد الشيخ إلى تجربة (وجوه) في وقتــه المناسب تماماً. ففي تجاربه السابقـــة خاض العديد من أشكال التعامل مع النصوص الغاية في التنوع، ومن بين أهمها التعامل مع القصائد العربية التقليدية والحديثة. وهو أيضاً كان في معظم تجاربه اقتحم ما يمكن تسميته بالمغامرات غير المتوقعة، مثل اشتغاله مرثية مالك ابن الريب، فليس مألوفاً في الغناء العربي، حسب علمنا، أن تلحن قصيدة على تلك الدرجة من الخصوصية، ويجري طرحها في سوق ليس متوقعاً منه أن يفهمها ويستوعبها. لكن خالد الشيخ كان بتلك التجربة يستجيب لنزوع ذاتي لتجربة ما يمسه إنسانياً وفنياً في نفس الوقت. وبالرغم من عدم نجاح (المرثية) بالمفهوم التجاري السائد في سوق الأغنية العربية، إلا أن التجربة كانت، من الوجهة الفنية متقدمة كثيراً وراقية جداً. لقد كان خالد الشيخ فيها متحققاً بالمعنى الفني ومنسجماً مع ذاته.
أزعم أنني كنت قريباً من تجربة خالد الشيخ منذ بداياته الأولى. وألتقيه بين أوقـــات متقاربة، ويجري بيننا حوار مهم. أقول مهم، بسبب حميميته وصراحته. وكنت أشعر طوال الوقت أن ثمة قلق لا يفارق خالد الشيخ في شتى مراحله. وأهمية هذا الفنان، في مجتمعنا، أنه مخلص جداً للعمل الذي يشتغل عليه. لذلك فإن عذابه، عندما يحاكم تجاربه، كان كبيراً. وهذا ما يدفعني دوماً لأن أكون قريباً منه. وهو كان يقول لي دوما، (أن دور «الرقاصة» الذي يطالبني به الواقع لا يناسبني ولا يشبع شهوتي الفنية). لذلك كنت مطمئناً لتجربته. وهذا القلق هو الذي أتاح لنا العثور على جوانب جديدة في معظم أعماله الموسيقية.
ولكي أكشف جانباً مهماً وحيوياً في تجربة خالد الشيخ، يجب القول بأن موهبته لا تقبل القناعة بما ينجز، فهو يتوفر على موهبة دارسة وناقدة معاً، الأمر الذي يجعله لا يكفّ عن البحث عن العلم والمعرفة، بصورة تظهره كما لو أنه يكتشف الموسيقي كل يوم. فهو يحمل كتب الموسيقي معه أينما يذهب. بل ويطلب العلم من الجميع، ويجلس إلى صاحب المعرفة مثل تلميذ مجتهد.
ويواصل حداد حديثه:
ربما تفسر هذه المقدمة، أيضاً، البعد الثقافي الذي تتميز به تجربة خالد الشيخ، فهو قارئ للشعر بصورة حساسة. ويبحث في القراءة عما يشكل له بعداً روحياً يتأسس مع نمو موهبته الفنية. لذلك عندما حاول ذات مرة أن يلحن نصاً لي من كتاب (قلب الحب) أوائل الثمانينات، وكان قد قطع شوطاً في ذلك العمل. اتصل بي ذات مساء وأسمعني على الهاتف قسماً من العمل. ولكنه بعد قليل اعترف بأن الأمر ليس سهلاً، لأنه لم يحب ما أنجز، وقال، «ربما أن الوقت لم يحن بعد». علماً بأنه لم يحدث لي أن دعوته لتلحين شيئاً لي. وهو كان يقرأ لعدد كبير من الشعراء العرب. وكان لحن نصوصاً جميلة لمحمود درويش وسميح القاسم وغيرهما.
والطريف أن تجربة (وجوه) لم يجر التخطيط لهــا (بينــي وبيــن خالــد) بشكل مباشر. فالمشروع أصلاً جاء في سياق تجربة فنية ثلاثية، اقترحها الفنان التشكيلي إبراهيم بوسعد، حيث يشترك التشكيل والرسم والموسيقى معاً. ويبدو أن هذه التجربة جاءت في الوقت الناضج لخالد الشيخ، وجاء هو إليها في وقته أيضا، فوجد فيها الأفق الذي يسعى إليه منذ زمن طويل. فهو لم يكن غريباً على كتابتي عموماً، ونصوصي الشعرية خصوصاً. لقد كان خالد الشيخ يقرأ شيئاً يتصل بالروح الإنساني الذي يمس تجربته في العمق.
وانطلق خالد في انتخاب الكلمات والجمل من مجمل النص الشاسع، لكي يؤلف نصاً خاصاً به. لقد جعلته يمارس حريته كاملة في صياغة النص وتقميشه بما يناسب أعماقه الموسيقية والإنسانية، وكان كل ما يفعله يسعدني يوماً بعد يوم، لقد كان يقرأني على طريقته.
كان ينتخب جملة من هنا وجمله من هناك ويضيف لهما كلمة من مكان آخر، كما لو أنه يضع ألواني على لوحته الجديدة، لكي أكتشف أنه ليس فقط يحسن القراءة، بل أنه يكتب الشعر بشكل غير مألوف. ويجب أن نلاحظ أن في مثل هذه الممارسة البعد الذي يتصل بطبيعة الشاعر الجديدة. ماذا يتمنى الشاعر أكثر من هذا في مثل تجربتنا العربية ؟ لقد أخبرته بأن مارسيل خليفة سبق أن مارس مثل هذه الحرية في نص طويل لعباس بيضون (نشر في مجلة «مواقف» أواخر السبعينات). ليخرج علينا بأغنية (يا علي). قليلون يعرفون هذه الحقيقة. وخالد الشيخ هو أحد الذي يرون في تجربة مارسيل خليفة بعداً روحياً لتجربته.
لم يأت خالد الشيخ إلى النصوص بألحان جاهزة مسبقاً، موروثة ومطمئنة في ذاكرته اللحنية، كما إنه لم يأت لألحان وإيقاعات جاهزة مألوفة تقدمها له النصوص أيضاً. لقد جاء ليكتشف إيقاعات تقترحها عليه سياقات حرة، خارجة على الوزن، وهذه إحدى جوانب الجدة والطرافة في تجربة (وجوه). فهو لم يتعامل، موسيقياً، مع النصوص الجديدة، بوصفه ملحناً، ولكنه كان يصدر عن موهبة وحساسية المؤلف الموسيقي. وفي هذا فرق شاسع لم يزل مجهولاً بالنسبة لمعظم الموسيقيين العرب. لذلك فإنه كان يضع موسيقى أعماقه لمحاورة
الكلمة وتفجير مكامنها الشعورية، واكتشاف طاقة الهارموني المتصلة بين روحه والكلام الصادر من روح شبيه. ففي تجربة (وجوه) استطاع خالد الشيخ أن يتفادى ذلك الترقيص الخارجي الفج الذي يمسخ النص والشخص في آن واحد.
أولاد بو جاسم وحركة التاريخ
وأنت تستمع إلى مقدمة أولاد بو جاسم من إخراج الفنان المصري الكبير مجدي أبو عميرة، تشعر أنك أمام تجربة غنية بحركة التاريخ، رغم أن العمل الدرامي هو عمل معاصر، وترى بعين خيالك طبيعة التحولات التي جرت وتجري في اللحظة التي نعيشها الآن. وطبيعة الصراعات التي تحدث في العائلة الواحدة، عائلة بو جاسم، ولكن هناك ثمة مسكوت عنه، عمل على إدخاله إلى قلوبنا الملحن المتميز خالد الشيخ
المقدمة الموسيقية الغنائية في مسلسل أولاد بو جاسم، تحمل أكثر من بعد، فهناك البعد الديني في استخدامات اسم بو جاسم، كأخر الأنبياء، وهناك البعد الاجتماعي في الصراعات اليومية بين أبناء إلام الواحدة والأب الواحد، أي صراع الإخوة، أو الإخوة الأعداء، وهناك البعد الكوني الإنساني، الذي يجعل من هذه الأثيمة، قيمة كبرى لا بد من الوقوف أمامها، للوصول إلى صيغة توافق اجتماعي وطني أنساني.
في هذا العمل الملحمي المميز، استخدم خالد الشيخ، الكثير من الجمل الموسيقية المعبرة عن الحالات النفسية والاجتماعية، استخدام الحوار بين الذات والموضوع والداخل والخارج، استخدم الحوار بين الذات والذات، واستخدم الحوار بين الفرد والمجموعة.
وحاول بالحاج أن يدمج المجموعة ويخرجها من إطار الهامش و يضعها في المركز. من هنا نرى سيطرة غناء المجموعة في ملحمته الموسيقية الغنائية، بحيث يبقى صوت الجموع هو الغالب داخل المتلقي، بعد أن يخفت صوت الموسيقى و الغناء.
تلحين كلام الجرايد
ولهذا نرى أن تجربة خالد الشيخ الحميــة والموسيقـــى مــن التجــارب الواجــب علــى المتخصصين في الموسيقى دراستها، دراسة معمقــة، من أجل اكتشاف ما لا نستطيـــع اكتشافه نحن المتذوقون لتجاربــه الطريـــة المتدفقة بالجديد والمختلف والمغاير. ودائما ما أقول أن خالد الشيخ هو أحد الفنانين الكبار الذي دخل في تلحين ما نظنه لا يلحن، أو على رأي المبدع العربي الكبير سيد درويش (تلحين كلام الجرايد) وهذا ما فعله خالد الشيخ في أكثر من تجربة، سواء في تجربة وجوه أو غيرها من التجارب التي خرجت إلى النور أو ما زالت تنتظر الخروج.