كتب - عبدالله يوسف:
في مقر مسرح أوال الواقع في منتصف الطريق الفاصل بين (فريج المري/ لقمره) وبين (فريج ستيشن القديم/ محطة السيارات القديمة) بالمحرق، التقينا وتعارفنا عام 1980... ليست الصدفة من هيأ ذلك، بل تدبير بعض الزملاء الأعضاء المنهمكين وقتها معي في تمارين قراءة نص (البراحة) المسرحية الأشهر في البحرين... كنت معهم ومحاطاً بحبهم ونبلهم وتطوعهم، اجتهد يومياً في محاولة تنفيذ فكرة انبثقت كالجنون في بالي، تتلخص في كيف يمكن استبعاد اللحن الأصلي للنص الشعري المتأصل في الذاكرة منذ الطابور المدرسي الصباحي.
(بلاد العرب أوطاني/ من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن/ إلى مصرا فتطوان)
ومحاولة إسباغ لحن من موروث الألحان التقليدية المحلية التي تشربتها ذاكرتي السمعية عليه؟ مستخدماً العود كآلة لعزف اللحن، و(المراويس) كآلات إيقاعية معتمدة في كل صنوف ومسميات (الأصوات الغنائية الشعبية) إضافةً إلى استثمار الأصوات الرجالية الجهيرة في أداء جماعي متناسق للنص الشعري!!
نجحنا في تنفيذ الفكرة إلى حد ما، لكنها بدت ركيكة ناشزة حين باشرنا أدائها، لينشغل ذهني ثانيةً في البحث عن كيفية تطويرها... تلك كانت ورطتنا وقلقنا ودأب بحثنا اليومي عن صاحب خيال مبدع يمتلك جدارة تنفيذ الفكرة والارتقاء بها إلى الأفق الموسيقي المتخيل، فكان أن اقترح أحد الزملاء اسم (خالد الشيخ).
في مساء اليوم التالي حضر (خالد الشيخ) للتعارف ولمعرفة المراد منه... شرحت له الفكرة، وأسمعناه -أنا وزميل التجربة الفنية والحياة (عبدالله وليد) برفقة (مرواس) في يد كل منا- محاولتنا اللحنية الخجولة الركيكة، المختلفة كلياً عن اللحن الأصلي المتداول للنشيد الشهير... استهوته الفكرة وأبدى اهتمامه وحبه لخجل المحاولة،، وبعد مناقشته الدقيقة المستفيضة، تأبط نص النشيد ونص المسرحية وغادرنا إلى عوده،، ليعود بعد بضعة أيام كي يسمعنا على أوتار عوده الأثير وبصوته المميز، التألق الفني الجميل المدهش الذي أضفاه على الفكرة الخجولة... فأتت (بلاد العرب) متوائمةً ونكهة (البراحة البحرينية).
على إثر ذلك صار تواجده اليومي في التمارين والتدريبات تطوعاً والتزاماً تحول سريعاً إلى شغف بالمسرح لديه، وإلى مشاعر ود ومحبة له وفخر به لدينا جميعاً.
بعد استيفاء تمارين القراءة والمناقشة في (البراحة) انتقلنا إلى (مسرح الجفير العتيد، المأسوف على تحويله إلى مطبعة لاحقاً) لإجراء تمارين الحركة على المسرحية.
في ذلك المسرح بدأت تجليات (خالد) الفنية العالية المستوى وتفانيه في تدريب الممثلين على الأداء الجماعي للفكرة اللحنية التي لم تعد خجولةً وهي ترفل في نعيم (خالد الشيخ) الإبداعي الملفت، الذي قادني طمعي فيه وحبي له وشغفي به، إلى التشبث به للعمل سوياً بعد ذلك فيما يقارب الخمسة عشر عملاً فنياً موزعة بين المسرح والتلفزيون، كانت بذرتها الأولى قد تأسست قويةً ثابتةً في (البراحة) وتجذرت عميقةً واعيةً متطورةً في معرض ومسرحية (وجوه).. ثم إلى التلفزيون بدءاً بأغنية (أصحابنا) كمقدمة لمسلسل (بن عقل) وصولاً إلى (ضيعوك) كمقدمة غنائية لمسلسل (عويشة).
ربطتني بخالد صداقة عزيزة وثيقة مثمرة كنا نلتقي في فيئها يومياً، يسمعني خلالها بصوته الرقيق على عوده كل ألحانه ومشاريعه الغنائية التي استهوتني كثيراً وأغوتني لتصوير بعضها تلفزيونياً حين توفرت لي فرص لتحقيق ذلك... كما مازالت في ذمتي له -منذ ذلك الحين- مشاريع لم تكتمل قد طال أمد حبسها دهراً لظروف لا طاقة في يدي المغلولة لدرئها ولا سبل.. وبرغم مرور زمن لم يكن رحيماً بي وبها إلا أنها مازالت ماثلةً أمامي كأنها مرآة صقيلة لا يبارح وجهي ماؤها العاكس لمدى أهميتها وقدرة حضورها الطاغي وصمودها ومفاجأتها حتى اللحظة القادمة التي أراها في المتناول القريب.. ذلك أنها بمثابة (دينٌ علي) ومن شيم الممارسة الفنية الحقيقية (الالتزام بوفاء الدين) وإن طال الزمن الذي يعاكس رغبة الوفاء به.
وفي الأكيد الثابت أن الإيقاع اللفظي والجرس الموسيقي والخلود.. من موحيات اسمه.. فهو (خالد) في ذاكرتنا الشغوفة بألحانه وأغنياته وبديع اختياراته الشعرية.. وهو (خالد) في المفاجأة والمباغتة الفنية المدهشة لأسماعنا بغير ما ألفته واستراحت زمناً عند حدوده.. وهو (خالد الشيخ) حيث لكل (شيخ طريقة) ولكل (خالد) منتوج إبداعي متفوق يحمل في عمومه وتفاصيله وثناياه، أسرار خلوده..
خالد الشيخ.. شكراً من القلب لك، لأنك أتحت فرصة التعرف بك... دمت لحناً خالداً..