قال شيوخ وعلماء دين إن «الله سبحانه وتعالى أمر بالجهاد وجعله فريضة على جميع العباد، بحسب الاستطاعة والاستعداد، يقول تعالى: «وجاهدوا في الله حق جهاده»، وهذا أمر لعموم المسلمين بالجهاد، كل عليه واجب منه حسب استطاعته، فقد أمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته»، فيما صنفوا الجهاد إلى «4 مراتب، أولها جهاد النفس، وثانيها جهاد الشيطان، وثالثها جهاد الكفار، ورابعها جهاد المنافقين»، موضحين أن «جهاد النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها».
وذكروا أن «الأصل والأساس هو جهاد النفس، فإن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً فيبدأ بها ويلزمها بفعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه لم يمكنه جهاد عدوه الخارجي مع ترك العدو الداخلي، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الجمعة: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا»، وقال للحصين بن عبيد: «أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها»، فأسلم، فقال: «قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي»». وأشار العلماء إلى أنه «من لم يسلم من شر نفسه لم يصل إلى الله تعالى، لأنها تحول بينه وبين الوصول إليه» موضحين أن «الناس قسمان، قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار مطيعاً لها، وقسم ظفر بنفسه فقهرها حتى صارت مطيعة له، وقد ذكر الله القسمين في قوله تعالى: «فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى»».
وقال العلماء إن «النفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يأمر عبده بخوفه ونهي النفس عن الهوى، والعبد إما أن يجيب داعي النفس فيهلك، أو يجيب داعي الرب فينجو، والنفس تأمر بالشح وعدم الإنفاق في سبيل الله، والرب يدعو إلى الإنفاق في سبيله فيقول سبحانه: «وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون»، فالنفس قد تسمح بالملايين في سبيل البذخ والإسراف، ولا تسمح بالقرش للفقير والمحتاج، وتكون تارة أمارة بالسوء، وتارة لوامة تلوم صاحبها بعد الوقوع في السوء، وتارة مطمئنة وهي التي تسكن إلى طاعة الله ومحبته وذكره، فكونها مطمئنة وصف مدح، وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم».
وذكر العلماء أن «جهاد النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها. وفي الحديث: «الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني» ومعنى: دان نفسه: حاسبها، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم. وتزينوا للعرض الأكبر، «يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافيةٌ»»، وقال ميمون بن مهران: «لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه»، ولهذا قيل: «النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك»، وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: «حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة»، فحق العاقل الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه في حركاتها، وسكناتها، وخطواتها، وخطراتها، ويظهر التغابن بين من حاسب نفسه اليوم ومن أهملها يوم القيامة في قوله تعالى «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً»».
واستشهد العلماء «بتصنيف الإمام ابن القيم رحمه الله لجهاد النفس حينما صنفه إلى 4 مراتب، أولها أن تجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين، والمرتبة الثانية أن تجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها، والمرتبة الثالثة أن تجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه. وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله، أما المرتبة الرابعة «أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله».
ورأى العلماء أنه «إذا استكمل العبد هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم فذلك يدعي عظيماً في ملكوت السموات. وفي وصية لقمان لابنه قال: «يا بني، إن الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حزون، فإن فتر سائقها ضلت عن الطريق، وإن فتر قائدها حزنت، فإذا اجتمعا استقامت».
وفي هذا الصدد يقول العلماء إن «النفس إذا أطمعت طمعت، وإذا فوضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت، فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها، ولابد له منها، وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإن الأحمق يخير نفسه في الأخلاق فما أحبت منها أحب، وما كرهت منها كره، والنفس تكره مشقة الطاعة، وإن كانت تعقب لذة دائمة. وتحب لذة الراحة، وإن كانت تعقب حسرة وندامة، فهي تكره قيام الليل وصيام النهار، وتكره التبكير في الذهاب إلى المسجد، فكم من شخص يجلس الساعات في المقاهي والأسواق ويبخل بالدقائق القليلة يجلسها في المسجد، تكره إنفاق المال في طاعة الله، تكره الجهاد في سبيل الله. كما قال تعالى: «كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون»، كما انها تكره الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وتكره القيام بالإصلاح بين الناس، وهكذا ما من طاعة إلا وللنفس منها موقف الممانع المعارض، فإن أنت أطعتها أهلكتك وخسرتها، كما قال تعالى: «قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين». وخلص العلماء إلى أن «الإنسان إن أطاع نفسه فقد ظلمها، حيث عرضها لسخط الله وعقابه، وأهانها وهو يظن أنه قد أكرمها حيث أعطاها ما تشتهي وأراحها من عناء العمل ومشقته فحرمته من الثواب».