كتب - عبدالرحمن صالح الدوسري:
ولت أيام العيد الخوالي دون رجعة، واختفت معها عادات ظنناها «عيال لول» أنها باقية ما بقي الدهر، التزاور بين الناس والأقارب والأصدقاء، تبادل أطباق العيد، «عيديات» الأطفال، والأهازيج والأغاني المخصصة فقط لهذا الضيف العزيز!
مظاهر الفرحة والبهجة والسرور باتت عزيزة، في عصر فرضت فيه التكنولوجيا نفسها، والابتسامة فيه أغلى من الذهب، والتعايد أقل بساطة وكلفة، رسالة واحدة «كل عام وأنتم بخير» ترسل لجميع الأرقام المتضمنة بالهاتف وكفى الله المؤمنين شر القتال!
رحم الله تلك الأيام!
نتحسر على أيام العيد الخوالي، بعد أن افتقدنا حلاوتها وما يميزها، كان الناس جسداً واحداً، يعيشون فرحتهم ويتقاسمون «رغيف» البهجة والسرور، كانت للعيد نكهته الخاصة، وأكثر تراحماً وتعاضداً وبساطة مما هو عليه اليوم، لجهة الملبس والمأكل والمشرب، والمجتمع يستشعر السعادة والفرح وقيمة التراحم والتواصل.
مظاهر العيد الاحتفالية تبدأ مع صلاة العيد، وبعدها ينتشر الجمع كلاً يقصد مجلس العائلة أو الفريج أو نوخذة الفريج، حيث تنتظر الجميع مأدبة الغداء والحوارات والتطيب بالعود والبخور، ويتهافت الصغار في الفرجان على المجالس كما الكبار، ولكنهم يأتون لحاجة في نفس يعقوب كلاً يمني النفس بعيدية «تترس» جيبه، يخرج بعدها مهللاً يتغنى من الفرحة «باجر العيد بنذبح بقرة نادوا خلفان وهاتوا البقرة»، وتتكرر صور الفرحة عند الصغار في منزل كبير العائلة، ويجدون فرصتهم في التنقل بين منازل الجيران، مرددين «عطونا عيدية» والبنات الصغار يرددن «أمي تناديني تبي تحنيني في سحلة صيني»، يقضون نهاراً شمسه لا تغيب من السعادة والفرح.
فرحة العيد
كنا نحتفل بقدوم العيد من خلال بعض الراديوات وكانت قليلة في فرجان لول، أتحدث عن الستينات وما قبلها، عندما كنا نحتفل بقدوم الضيف الطيب «العيد»، بعد العودة من الصلاة وبمرافقة الوالد - رحمة الله عليه - كان أول من نتسلم منه العيدية، وكانت بسيطه لاترقى إلى طموح صغار هذه الأيام «شوية» روبيات.
أعياد الماضي ليست كأعيادنا الآن، بعدما طغت عليها مغريات الحضارة الحديثة، وهناك فارق كبير بينها وبين الزمن الحاضر، حيث اندثرت كل معالم فرحة العيد، كان الجميع ينتظرون العيد بفارغ الصبر وبلهفة وشوق يرتسمان على وجوه الرجال والنساء والأطفال، وكذلك الشباب، وما يكاد يصلنا خبر دخول العيد حتى تهب رياح الأفراح والأهازيج المرتقبة، ونتزاور فيما بيننا، ونبارك لبعضنا البعض بقدومه.
زمن عن زمن يفرق
حسين شرفي من الحورة في حديثه السابق لـ»الوطن» يقول «الاحتفال بالعيد مناسبة خاصة يجتمع فيها أفراد العائلة وكل يستعد بطريقته، وكان للصغار النصيب الأهم من الجميع، قبل أن تشرق شمس العيد، كانوا يتجمعون في دواعيس الفريج، يصنعون طبولهم من جلود وكروش الأغنام، ويجهزونها لاستقبال العيد ويطلقون أغانيهم الخاصة».
«باجر العيد بنذبح بقرة
نادوا خلفان بسيفه وخنيره
باجر العيد بنلبس اليديد
نبي ناكل عيش وخوخ وسنطرة»
ذاك الزمن كان مليئاً بالمحبة والإيمان في نفوس أهله، وسفرة العيد عامرة في كل بيت، لم يكن هناك محتاج، حتى الفقير كان يسعده أن يجعل جاره يشاركه غداء العيد وإن كان «على قد الحال»، ويردد الجميع «كل مشروك مبروك».
تجد النسوة والأطفال يتبادلون توزيع أواني غداء العيد مع الجيران، وقوامها العيش واللحم والبعض يطبخ جريشاً مربيناً وآخرون مجبوساً باللحم أو الربيان، وحتى السمك له نصيب، وكل واحد منهم يطبخ ما باستطاعته لتقديمه لضيوفه وبيوت الفريج، وتجد السفرة متنوعة الطبخات من أكلات الجيران، ما يدل على محبة وعلاقة حميمة بتنا نفتقدها اليوم، رغم أن أوضاع الناس مقارنة بالماضي أفضل بكثير، لكنهم ابتعدوا عن بعضهم البعض وأصبحت علاقاتهم لا تتعدى السلام، وأصبح الجار لا يعرف عن جاره شيئاً، والكثير من الأهل والإخوة تباعدوا في علاقاتهم وأصبحت زياراتهم موسمية فقط.
مصلى العيد يجمعنا
ويضيف حسين شرفي «كان مصلى العيد قرب المستشفى الأمريكي يجمع المصلين في المنامة بكل فرجانها، هذا المصلى كان يستخدمه رجال التنظيمات السياسية في البحرين في اجتماعاتهم وخطبهم، وهو عبارة عن حوطة كبيرة تسمى بمسجد العيد، وإذا لم تصل صلاة العيد في هذا المصلى فإنك لم تُعيد.
كان الشيخ عبداللطيف آل سعد يخطب كل عيد، ولم يكن هناك «ميكرفون» في تلك الأيام، إلا أن الجميع يستمعون لخطبة العيد بصوته لأنه يملك صوتاً مميزاً جهوراً وقوياً.
عسى يوم العيد
ما يخلص
بعد صلاة العيد يتوجه الناس لزيارة الأهل والأصدقاء، وكان غداء العيد يؤكل بعد الصلاة والمجالس كثيرة وترحب بضيوفها، والأطفال هم الأكثر سعادة بمقدم العيد فهو بالنسبة لهم الفوز بالملبس الجديد «الكشخة»، فهم يقضون ليلة العيد وهم يتوسدون الملابس الجديدة بعين نصف مغمضة ونصف مفتوحة كنوم الذئب بانتظار شمس الصباح.
ويوم العيد هو الوحيد يهرول فيه الصغار ليغتسلوا دون صراخ الوالدين وتهديداتهم، فالصغار يتمنون الخروج بسرعة من البيت والبحث عن لم الكم الأكبر من العيادي، يجوبون الشوارع ليفوزوا بالعيدية.
أغلب الأطفال ومن شدة فرحهم بهذا اليوم يتمنون ألا ينتهي، وأن يمتد لساعات طويلة بل لأيام، لأنه يوم يشعرون فيه بامتلاء جيوبهم بالعيادي، وباستطاعتهم أن يشتروا ما يريدون من مأكولات وحلويات ومشروبات، ويدخلون المطاعم حالهم حال الكبار، وفي العيد فقط يدخلون السينما بتذكرة كاملة ويشاهدون الأفلام منذ البداية، هذا كله من أفضال العيد، لذلك لايمكنهم نسيانه، ودائماً يتمنون أن تطول زيارته ولا تنتهي.
المقارنة ظالمة
بالحديث أعياد «لول» وأعياد اليوم نجد أن المقارنة ظالمة وتنطوي على إجحاف، لماذا لم يعد العيد مثل سالف الأيام؟ رغم أننا نتسابق على شراء الحلويات والمكسرات والحلوى ونوصي بالكثير من الطبخات لم يكن لها وجود في تلك الأيام، ونزين مجالسنا بأفخر الأثاث، إلا أن «شبح» العيد يمضي دون أن يطرق أحد بابك، ولو فكرت في الذهاب إلى جيرانك القريبين من دارك، تجد البيوت شبه مهجورة وأهل البيت ربما استغلوا الإجازة الطويلة، فمنهم من سافر إلى إحدى الدول المجاورة، وآخر استأجر له ولعائلته «شاليه» هرباً من الناس وعيال الفريج.
قد تكون «المسجات» سببت الكثير وزادت من تباعد الأهل والأصدقاء وأراحتهم ـ حسب ظنهم ـ من زحمة الخروج بالشوارع، واكتفوا بإرسال رسائل في جملة واحدة تتكرر للجميع «عيدكم مبارك وكل عام وأنتم بخير».
تحولت المعايدات بدلاً من الزيارات وتبادل القبل والتطيب بريحة العود والبخور وماء الورد، إلى التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، ما أثر بطبيعة الحال على صلة الرحم، فيما كانت الزيارات شيئاً أساسياً ليس في العيد فقط بل طوال السنة.
العيد هدية من الله لنا على طاعتنا له، فلا نجعله يوماً لارتكاب الذنوب والأوزار، فمن يصل رحمه يصله الله بالرحمة والبركة والخير، ومن يقطع رحمه يقطع الله عنه الرحمة والخير والبركة.
فقدنا الكثير من الأشياء المتعلقة بالعادات والتقاليد، حتى المجالس وعاداتها تغيرت أيضاً، رغم أن الناس ما زالت تحافظ عليها، والبعض لا يعيد في منزله بل يسافر، وكثير من الناس لا يعرفون جيرانهم المقربين.
اليوم أفضل
يبدو أن البعض لهم رأي مغاير، ويرون في العيد اليوم أفضل من أعياد زمان، مظاهر الاحتفال كثيرة ومتنوعة وترضي الصغار والكبار وتسعدهم، هناك الحدائق والمتنزهات العامة والكورنيش والمولات والسينمات والتلفزيون والحفلات والشاليهات والأماكن الشاطئية، تناسب الشباب للتخييم والاستمتاع بأوقاتهم، وهناك الأماكن الترفيهية للصغار والكبار والكثير من المطاعم والسهرات لم تكن في أجندة أهالينا في تلك الأيام.
الإحساس بطعم العيد يساوي نفس الفرحة والبهجة، الاحتفالات بكل مكان في البيت والشارع والأسواق الشعبية والمولات والمسرحيات والحفلات الغنائية وزيارة الدول المجاورة والتمتع بما يقدم فيها من برامج.
كل تغير
لو تذكرنا أسلوب الناس نجد أنه تغير في العيد، ففي الماضي كنا نحرص على معايدة الجيران والأهل وتهنئتهم بالعيد، أما الآن بالكاد يتم تهنئة الأقارب والأهل فقط والجيران لا محل لهم، حتى ألعاب الأطفال تغيرت ودخلت عليها التكنولوجيا الحديثة وأثرت عليها شكلاً ومضموناً، ولا مكان لألعاب شعبية اعتدنا عليها في طفولتنا، وحلت بدلاً عنها ألعاب «بلاي ستيشن».
هكذا اختلفت التقاليد الجميلة في التجمع والمعاني اختلافاً كبيراً، فالعيدية اختلفت في المعنى والمضمون كثيراً، زمان كنا نأخذ حاجة بسيطة جداً وكنا في غاية السعادة، أما حالياً فالأطفال لا يعيرون اهتماماً أصلًا بالعيدية، لأن جيوبهم «مليانة» طوال السنة، وليسوا بحاجه للعيد لا في الملابس الجديدة ولا بالمصروف.
العيد في السابق له خصوصيته ورقصاته وأهازيجه ولا تخلو ساحة من رقصة العرضة أو فرق تقدم فنونها الشعبية وأغانيها مسحت من دفاتر الأعياد هذه الأيام، كما مسح من يقدمها ويشاركنا الأعياد في التعريف بفنون بلده.
حتى الأغاني كانت تسجل خصوصاً للعيد وتنتشر بين المقاهي والدكاكين رغم قلة أجهزة التلفزيون والراديو، كانت هناك الكثير من الأغاني لفيروز وأم كلثوم وعوض الدوخي والكثير من الفنانين الخليجيين والعرب.
من الأغاني العالقة في الذاكرة للفنان عوض دوخي «صوت السهارى» وتقول كلماتها:
«صوت السهارى يوم
مروا عليه.. عصرية العيد
وياللي بقيت بعيد.. اليوم ذا يوم عيد
عيدك وعيدي أنا عيدك وعيدي أنا».
ونالت الأغنية نصيباً وافراً من الشهرة، حتى أن الفنانة القديرة فايزة أحمد أعجبت بالأغنية عندما زارت الكويت، وطلبتها من الفنان عوض دوخي وغنتها وسجلتها بصوتها، وفي تلك الفترة كانت الكويت مركز لتجمع الفنانين العرب.
كان الناس يسهرون لسماع خبر العيد، ويستبشرون بالعيد بيتاً بعد بيت لعدم وجود أجهزة التواصل المتوفرة اليوم، وخاصة الرجال الذين يصلون بالمساجد وكل يذهب إلى بيته يبلغ عائلته أن غداً يوم العيد، فتستعد الأم وتجهز المواد الغذائية ليوم العيد، خاصة البيوت الكبيرة.
يغتسل الرجال استعداداً لصلاة العيد، ويستيقظ الأطفال ويذهبون مع والدهم إلى المسجد لأداء صلاة العيد مرتدين ملابسهم الجديدة، وبعد أداء الصلاة يبدأ فصل التزاور ما بين الأهل والأقارب، ويسير الناس في الفرجان جماعات، لكن في الوقت الراهن تغيرت الصورة، وقليل من لا زال محافظاً على تلك العادات الجميلة.
كانت الاستعدادات لاستقبال العيد تبدأ قبل قدومه بفترة، كان الأهل في السابق يشترون الطحين لعمل الحلوى والمأكولات الشعبية كالخبيص والمرقوقة والخنفروش، وتتجمع الأسرة على تلك الأكلات عقب العودة من صلاة العيد مباشرة، ثم يأتي الأهل والأقارب والجيران ويتبادلون الزيارات بين بيوت الفريج لتبادل التهاني بمقدم العيد.
أناشيد الأطفال في الذاكرة
يبدأ الأطفال في أول أيام العيد بترديد الأهازيج التي تتميز ببساطة وعفوية اللحن والكلمات، يرددونها جميعاً وهم يستشعرون الفرح والسرور، ومن الأغاني المنتشرة في تلك الأيام «عطونا عيدية «، و» جعل الفقر ما يعود عليكم، والبنات الصغار يرددن «أمي تناديني تبي تحنيني، في سحلة صيني، صيني على صيني»، ويستمرون في ترديد الأغاني حتى مغيب الشمس، وهم ما بين اللعب والمرح، وما بين ترديد العبارات في طلب العيدية. ويبقى العيد رغم كل السلبيات، ضيفاً جميلاً يدخل البهجة والسرور وينشر الفرح بين كل أفراد المجتمع، وحتى من لا يفرح بمقدم العيد بشكله المعتاد تراه يفرح بإجازته الطويلة في كثير من الأحيان عندما تتداخل معها الإجازة الأسبوعية، بما يتيح مشروع سفر للعائلة وتغيير الروتين اليومي.