كتب - أمين صالح:
أنج لي، مخرج تايواني استقر في أمريكا وحقق عدداً من الأفلام الهامة، من أشهرها: النمر الرابض، التنين المخفــي Crouching Tiger, Hidden Dragon، عقل وأحاسيس Sense and..Sensibility وحاز مرتين على أوسكار أفضل مخرج عن Brokeback Mountain (جبل بروكباك) 2005 و«حياة باي» Life of Pi (2012).
فيلم «حياة باي» معد عن رواية للكاتب الكندي يان مارتل، صادرة في العام 2001، وقد حققت مبيعات عالية وحازت على جوائز أدبية. الكثير من المخرجين وجدوا صعوبة في تحويل الرواية إلى الشاشة، وصرحوا بأن من المتعذر إخراجها سينمائياً بسبب أجوائها وعوالمها، ولأن أغلب أحداث الرواية تدور في قارب صغير وسط المحيط، على متنه فتى ونمر، والفتى وحده الذي يتكلم طوال الوقت.. ورأوا في عملية التحويل مجازفة.
يقول أنج لي: «في المرة الأولى التي قرأت فيها الرواية أدركت صعوبة تحويلها إلى فيلم. أن تصور لمدة ساعتين مغامرة فتى في قارب وسط البحر وحده أو مع نمر مفترس، ذلك كان التحدي الأكبر. لذلك وضعت الرواية جانباً، لكن مع إلحاح زوجتي وأولادي لإعادة النظر في قراري بشأن تحويل الرواية، بسبب إعجابهم الشديد بها، أعدت قراءة هذه الرواية العميقة، الحيوية، القادرة على جعــــل القارئ يشعر بتحدٍ هائل. كنت على يقيــن من صعوبة أو استحالة تصوير نمر في قارب، لذلك اعتمدت خيار التصوير بتقنية الديجيتال. من الخطورة العمل مع نمر حقيقي، كما يتعذر الحصول على النتيجة التي تريدها منه في كل لقطة. لذلك اعتمدنا على الحيوان الرقمي، خالقين النمر بطريقة تقنية بحتة».
الرواية في مضمونها تقترب كثيراً من الحكايات التقليدية الموجهة للأطفال والقائمة على الأحداث السحرية والعجائبيــة، وخصوبة المخيلة.
الفيلم يدور حول شخصية باي، وباي اختصار لكلمة «بيسين» في اللغة الفرنسية والتي تعني بركة السباحة. هو هندي في منتصف العمر (يؤدي دوره الممثل الهندي البارع عرفان خان)، يروي قصته، في تواضع وبلا ادعاء -عندما كان طفلاً ثم مراهقاً (سوراج شارما)- لكاتب كندي ينوي تأليف كتاب مستفيداً من معلوماته وتجاربه. قصة باي لم يصدقها الكثيرون بسبب غرابة أحداثها وعدم قابليتها للتصديق.
في صغره، اشترت عائلته حديقة حيوان، وهو نشأ وكبر في هذه الحديقة، وبالتالي صار مفتوناً بها، لكن بسبب ضائقة مالية تلم بهم، تقرر العائلة بيع الحيوانات والانتقال إلى كندا، آخذين معهم بعض الحيوانات النادرة، على الرغم من تحفظ باي، الذي لا يرغب في ترك بيته وحيواناته وحبيبته. غير أن السفينة تتعرض لعاصفة هائجة فتغرق، ولا ينجو غير باي، الذي يجد نفسه في قارب نجاة، يتحرك على غير هدى في المحيط الفسيح، مع عدد من الحيوانات: حمار وحش جريح، ضبع هائج، قرد، ونمر بنغالي.
النمر الضخم يفترس كل الحيوانات الموجودة في القارب، ويحاول أكثر من مرة افتراس باي إلا إنه يتفادى هجماته. يبقيان وحدهما، هو وخصمه الجائع المرعب، كل في مساحته المحدودة الخاصة، ولمدة أكثر من 220 يوماً.. محاطاً بأسماك مشعة، حوت عملاق مرصع بقناديل بحر متوهجة، أسماك طائرة، كائنات بحرية غريبة، المياه الراكدة الصافية التي كالمرآة الناصعة تعكس بوضوح شديد صورة السماء.
العلاقة بين الكائنين، في البداية، تكون حذرة وعدائية، حيث غريزة البقاء تكون مهددة ما لم يحرص الطرفان على الإبقاء على مسافة كافية بينهما، ويظل كل منهما في حيزه الضيق الخاص، يغذي نفسه كي لا يسعى إلى افتراس الآخر، ويتجنب الغرق. ثم يتوصلان إلى ما يشبه الهدنة. بعــــدها، تتنامـــــى العلاقة لتصبح رفقة وصداقة نادرة.
هنا يمكن النظر إلى النمر بوصفه رمزاً لإيمان باي. يقول أنج لي: «هذا النمر يرمز إلى كل حيوان موجود داخل كل واحد منا. هذا الحيوان الذي بداخلنا، الذي هو جزء منا، هو الذي يتحرك بقوة في كل مرة نشعر فيها بالقلق أو بالخوف.. هذا هو الموضوع الرئيس في الفيلم. كيف يتعين علينا أن نروض وندجن هذا الحيوان بداخلنا؟ هل يمكن التعايش معه؟»، الفيلم يرتكز على اللاهوتي أكثر من الفلسفي. إنه يثير أسئلة بشأن علاقة الإنســــان بالخالـــــق، بالمقــدس، والعلاقــة بين الإيمان والواقع، وما إذا كان للحيوان روح. باي يؤمن بذلك، ويمكن التيقن من ذلك -حسب اعتقاده- بالنظر عميقاً إلى عين الحيوان. لقد اعتنق باي ثلاث ديانات مختلفة في آن واحد: الهندوسية والإسلام والمسيحية (الأب ينتقده بقسوة على هذا الموقف ويشجب سلوكه هذا) هذا جعله ينفتح على العالم من حوله، بكل مخلوقاته وكائناته، ويمتلك رؤية شاملة للعالم يؤهله لأن يرتبط عاطفياً بما يحيط به من أشياء أو كائنات مألوفة وأخرى متناقضة مع طبيعته.
لكن والده الذي لا يتفق معه يشعر على نحــو مختلف، فهو يرى أن أي عمق يشعره الإنسان في عيني الحيوان ما هو إلا انعكاس لعاطفة بشرية، أي ما يود البشر أن يروه بدلاً من طبيعتها العنيفة.
من وجهة نظر درامية، القصة في مجملها عادية، وليست مبتكرة. المادة تبدو غير مؤثرة، تفتقر إلى التوتر الدرامي خصوصاً مع اعتماد الفيلم على أسلوب الفلاش باك الذي يكشف بشكل صريح نجاة البطل من المحن التي سوف يصادفها. هكذا لا يبدو الفيلم في بنائه مهتماً بالدراما المتأصلة للوضع أو الحالة بما أن نجاة البطل باي حتمية ومعروفة سلفاً. مصيره ليس هو الغاية التي يسعى العمل إلى تحقيقها. الراوي غالباً ما يتدخل ويقتحم الحدث بلا داع ومن غير ضرورة، مقدماً تعليقاً غير ضروري. الفيلم بالتالي لا يغريك بالمشاركة والانغمار في الأحداث. الموضوع لا يشد جمهوره بقدر جماليته المبهرة وتقنيته البصرية الممتعة، وثرائه التشكيلي، إضافة إلى الدقة والبراعة والإتقان في تنفيذ الفيلم.
من أجل تجسيد الأشياء غير الملموسة، يلجأ المخرج أنج لي إلى الاستفادة من منجزات التقنية البصرية، البسيطة والمركبة، التي هي في غاية التعقيد، ومن هذه المؤثرات الخاصة، البصرية والصوتية، استطاع، مع مصوره المبدع كلوديو ميراندا وفريقه الفني، أن يخلق تكوينات تشكيلية مذهلة، وصوراً سحرية أخاذة ومبهرة، وقابلة للتصديق.
الفيلم ترفيهي حقق نجاحاً جماهيرياً، وفي الوقت نفسه حاز على العديد من الجوائز، من بينها أربعة جوائز أوسكار كأفضل مخرج وتصوير ومؤثرات بصرية خاصة وأفضل موسيقى أصلية.
وجوائز بافتا (الأكاديمية البريطانية) كأفضل تصوير ومؤثرات بصرية خاصة.