كتب - عبدالرحمن أمين:
أتذكر منذ طفولتي أنني كنت أرافق جدي المرحوم عبدالله بن أمين أثناء زيارته ثلاثة مجالس حكومية تمثل الشعب البحريني في فتره منتصف القرن الماضي.
كنت أكبر أحفاده وكان يصحبني رحمه الله إلى أي مكان يذهب له، خصوصاً لأصدقائه أصحاب المحلات التجارية، ومما لفت نظري أن جميع من كان يدير تلك المحلات كانوا من البحرينيين بمشاركة أبنائهم وأقاربهم أو عاملين من أهل البحرين، فكان يسهل التعامل معهم بعكس ما نراه اليوم من سيطرة الأجانب على تجارتنا وأعمالنا.
وكان جدي كثير التردد على محلات بوخماس بسوق القيصرية بالمحرق حيث تربطه بالمرحوم عيد بوخماس صداقة وطيدة.
من جانبي ووفاء لهذا الرجل وما قام به من دور كبير في ازدهار البحرين وما نشاهده اليوم من تطور، طلبت من ابنه ورفيق دربة الأخ والصديق يوسف عيد بوخماس -الذي ساهم كثيراً في نمو مؤسسة بوخماس من حيث عمله الدؤوب بجانب والده- أن يحكي قصة نجاح والده في التجارة، وبعض تفاصيل سيرته.
الولادة بالمحرق
ولد المرحوم عيد بن راشد بوخماس العام 1925، وذلك في بيت جده المرحوم علي بن حسين بوخماس بفريق الشواطرة المجاور لفريق المعاودة والبنائين بمدينة المحرق، وقد ختم القرآن عند مطوع يسمى «فاضل» كما تعلم عنده مبادئ القراءة والكتابة منذ صغره مما ساعده في إدارة محلات بوخماس بسوق القيصرية بالتعاون مع أخيه المرحوم عبدالرحمن راشد بوخماس محل بوخماس المشهور في البحرين وكافة دول الخليج بتجارة أدوات القلافة ومستلزمات الغوص، وهي المهن الوحيدة التي كان يعمل بها ويمارسها أهل البحرين في تلك الفترة، وكانت من الأدوات التي يستخدمها الغاصة «الفطام والخراب»، أما النجاجير فكانوا يستعملون الجدوم والمنشار والمجدح، كما كنا نستورد العديد من لوازم البناء والحدادة.
صحبة مميزة
كان لمحلات بوخماس عملاء من غالبية وجهاء المحرق في تلك الفترة ويتذكر ابنه يوسف الذي كان ملازماً بصورة دائمة لوالده، وساعده الأيمن أنه شاهد من رجالات المحرق الذين يفتخر بصداقته التي كوّنها معهم ويذكر منهم المرحومين عبدالله بن أمين وأحمد الشيراوي ومحمد بن يوسف الغاوي وحسن عبدالله سيادية وأحمد جمعان وعيسى صقر الشيراوي وعيسى محمد الحادي والعديد غيرهم.
بالدْين ونقداً
كان من الزبائن من يتعامل مع والد يوسف بالنقد ومنهم بالدْين «السلف» ، وكان يقوم بتدوين الديون في دفتر صغير خاص وكان الزبائن يسددون ما عليهم بالأقساط الشهرية وقت استلام رواتبهم والأمانة والذمة هي من تحكم العلاقة سابقاً بعكس ما نشاهده اليوم، أما التجار فكانوا يرسلون صبيانهم إلى الوالد بورقة يذكرون فيها ما يريدون فكان يرسل لهم رغباتهم حالاً، و»لا أبالغ إذا ما قلت إن الوالد كان يقضي أكثر ساعات يومه في دكانه أكثر مما ما كان يقضيه مع عائلته، حيث كانت التجارة مزدهرة بجانب شهرة محلات بوخماس دون منازع فلا توجد لديه إجازة لا أسبوعية ولا شهرية وكان لا يخرج من محله إلا عندما يخيم الظلام وتأتي النواطير لحراسة الأسواق ويأتي العامل العماني ويدعى «سالم العماني» لإنارة «لمبات» الإضاءة بعصا طويلة يحملها بيده للضغط على أزرار أعمدة المصابيح لإضاءتها.
عراقة سوق القيصرية
يعتبر سوق القيصرية الذي عايشه المرحوم عيد من الأسواق الشعبية القديمة والذي مازال قائماً ومازال الناس يذهبون إليه وخصوصاً كبار السن ممن عاصروا فترات السوق الذهبية لتعود بهم الذاكرة إلى تلك الفترة للمشي فيه، «وما نفخر به أن دكان الوالد رحمه الله مازال معلماً من معالم تاريخ البحرين الحديثة، وكان الوالد لولعه بالتجارة وتقديم أفضل الخدمات لعملائه لم يكن يحظى في شبابه بوقت للهو أو اللعب مع الصبيان في الأحياء والفرجان لأنه كان مشغولاً بالعمل مع جده المرحوم الحاج علي بن حسن بوخماس وكان هادئاً في طبعه سلساً في حديثه متواضعاً في حديثه وعطوفاً على الفقراء والمساكين، وقام بمساعدة عدداً من العائلات المحتاجة كما وساهم في ترميم عدد من المساجد وإعادة صيانتها. كان المرحوم الوالد كثير المداعبة مع صديقه وجاره الوجيه المرحوم أحمد جاسم سيادي «صاحب بيت سيادي الأثري المشهور» عندما يحصل على فرصة للتحدث إليه، ورغم خفه روح الوالد إلا أنه كان شديداً وجاداً في تربية أبنائه على الأخلاق القويمة وطرق التعامل مع الزبائن وقد استفدنا كثيراً من تعاليم الوالد في حسن المعاملة كما كنت ملازماً له عند سفره إلى الهند لجلب بعض البضائع كالحبال والمسامير».
ويضيف يوسف «كنا نستورد المرايا المزينة التي تستخدم في حفلات الزواج وتعلق في ما كان يعرف «بالفرشة»، وكان من زبائن هذا النوع من المرايا شخص يدعى «عبدالله حسين بن هندي» وكان مهتماً بتركيب وتنظيم المرايا بالاتفاق مع العريس وأهله».
أصدقاء حميمون
وعن أصدقاء أبيه يقول يوسف: كانوا ثلاثة وهم المرحوم محمد بن جاسم سيادي والمرحوم عيسى محمد الكويتي والمرحوم محمد القطان وكان يلقب بمحمد الوزير وهو من أصحاب حملات بعثات الحج في منتصف القرن الماضي، وكانوا في اجتماعاتهم الليلية التي تمتد إلى منتصف الليل يحلو لهم بعدها الذهاب إلى عين بن هندي للاستحمام بها والعودة بعدها إلى منازلهم للنوم. «لقد كان الوالد المرحوم يحظى بحب واحترام كل من كانت تربطه معهم علاقات تجارية وأخوية، فكان يحرص على مشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم ويسعى بكل استطاعته لحل مشكلات الناس في ما بينهم أو التوسط لهم لدى الدوائر الحكومية المختصة، ومازال أصدقاء الوالد عندما ألتقي بهم يذكرون لي مكارم الوالد وسعيه الدؤوب في مساعدة المحتاجين، ومن الصفات التي اشتهر بها الوالد حبه للنظام والترتيب إلى درجة أنه إذا ما شاهد في دكانه أو مخزنه «كرتوناً» في غير محله قام بنفسه بنزعه ووضعه في مكانه المناسب، ومنه تعلمنا النظام والدقة والمواظبة في العمل».
مواقف مضحكة
وحول ظرف أبيه يقول يوسف: من مداعبات الوالد أنه في إحدى المرات كان بحاجة لسيارة فأوكل إلى ابنه حسن شراءها الذي اختار سيارة ذات لون أسود داكن وعندما أحضرها لبيت العائلة وشاهدها الوالد قال له كل ألوان الدنيا تركتها واخترت اللون الأسود، «هل تريد أن أحترق بداخلها أو تحترق أصابعي عند لمسها» لأنه في اعتقاده أن شدة حرارة الشمس تؤثر على الألوان السوداء، وفي نادرة أخرى حضر أحد الزبائن مع شخص يدعى «مال الله الصباغ»، وكان يعمل في صباغة البيوت لاختيار طلاء لبوابة بيت ذلك الرجل فكان أن اختار اللون الأحمر، رأى الوالد مال الله وقد غضب من اختيار اللون وترك المكان مغادراً وهو يقول لا أرضى أن يضحك عليّ الناس وهم يشاهدون لون الباب، فما كان من صاحب المنزل إلا الخضوع لرغبة الرجل واختار لوناً آخر حتى لا يتعطل عمله.
ذكريات عذبة
توفي والد يوسف عن 85 عاماً، بعد حياة مليئة بالعمل والمثابرة والاعتماد على النفس حتى تمكن من إيجاد مؤسسة بوخماس التي ذاع صيتها مع أخيه المرحوم عبدالرحمن بوخماس، «كانت وفاته صدمة كبيرة لنا ولأصدقائه ومحبيه داخل البحرين وخارجها، ولقد افتقدنا لرحيله جلساته معنا صباحاً عند ذهابنا للعمل، ومساء بعد عودتنا للمنزل، حيث كنا نستمع إلى تعليماته وملاحظاته التي استفدنا منها كثيراً، وأي إنسان عندنا يفقد عزيزاً لديه يمكن تعويضه لكن فقدان الوالدين اللذين هما نور البيوت وطريق الخير والبركة حواليك لا يمكن تعويضهما، فادعو الله لوالدنا الغالي بالرحمة والرضوان وأن يجعله من سكنة الجنان».