كتب - جهاد الرحيم:
«وحدوا الله وكبروا وصلوا على النبي، وصلوا لوجه الله تعالى ركعتين، ومن ليس على وضوء فليذهب ويتوضأ على وجه السرعة، إذ الصراخ والبكاء لا يجدي نفعاً في هذه اللحظات العصيبة»، هذه هي آخر الكلمات التي تحدثت بها السيدة السورية البانياسية تغريد، عندما كانت تهدئ من روع المهاجرين، الذين كانوا على متن مركب متهالك، غرق يوم الجمعة الموافق 11 من أكتوبر الجاري قبالة شواطئ جزيرة لامبيدوزا، بعد أن تعرض لإطلاق نار من المهربين تجار الموت، جراء خلاف نشب بينهم أنفسهم، ما أدى إلى عطب في المحرك الرئيس للزورق المتهالك أصلاً.
تغريد الحامل بتوأم التي أبحرت صبيحة يوم الخميس 10 من أكتوبر الجاري، من منطقة زوارة، على متن زورق متهالك قاصدة إيطاليا، برفقة نحو 400 ألف لاجئ معظمهم من السوريين والفلسطينيين، كانت تدرك أن الرحلة محفوفة بالمخاطر، لكنها قررت الخلاص من الوضع المزري الذي تعيشه، ووجدت أن أوروبا هي طريق الخلاص، فإما الوصول إليها، والبدء في حياة جديدة بعيدة عن القتل والدمار والذل والهوان، وإما الموت غرقاً في عرض البحر المتوسط.. هذا البحر الذي تعرفه عن كثب فهي ابنة بانياس التي تغفو وتنهض على مده وجزره، وطالما يممت وجهها شطره.. تحدثت معه وحدثها عن النوارس وعن رحلات الأجداد الذين أبحروا على متنه، ووجدوا في الشطر الآخر من الحياة التي تغيب وراء أمواجه سبلاً جديدة لحياة تقدر الإنسان وحقوق الإنسان، لكن «المتوسط»، في هذه المرة غرق كثيراً قبل أن يغرق أبنائه، فكانت كارثة لامبيدوزا، وكانت تغريد خبراً في عالم المجهول، وكان معظم من أبحروا معها جثثاً طافية على بحره، وارتهم إيطاليا ثرى «أغرجنيوا» أرقاماً لا أسماء. يقول التاجر السوري النرويجي أحمد محرز ابن بانياس التابعة لمحافظة طرطوس، شقيق المفقودة تغريد، إن «الكارثة أليمة، بقدر ما تحمل الكلمة من معنى»، مضيفاً أنه «وصل إلى إيطاليا قادماً من النرويج، بعد أن ضاق ذرعاً من السؤال والاتصال والبحث عن أخته تغريد، لكنه لم يجد جواباً شافياً يوصله للحقيقة». وتابع «ظروف الحادث وتخلي المعارضة السورية، عن المأساة، جعلته يتبنى قضية المفقودين كافة، ويتذكر محرز، كيف كانت المعارضة السورية تأتي إلى أوروبا وتجمع ملايين الدولارات، باسم الثورة وباسم الثوار، وباسم الشعب السوري، ويقول: «تفاجأت أن بعض من يسمون أنفسهم بالمعارضة كانوا يسعون فقط للمال والجاه، ولا يسعون أبداً إلى صالح الشعب السوري»، مضيفاً «وجدت نفسي في معترك عمل إنساني وإغاثي، لم يسبق لي وأن عملت به، فبعد أن كنت أبحث عن شقيقتي وابنتها شام، بدأت شيئاً فشيئاً أدخل في تفاصيل هذه القضية، من خلال التواصل مع الشرطة الإيطالية، والصحافة الأوروبية، والتواصل مع أهالي الضحايا في الداخل السوري، والتعرف على الجثث».
ويروي ناجون لشقيق تغريد رجل الأعمال السوري النرويجي أحمد محرز، أن «جميع من التقيتهم من الناجين»، قالوا إن: «السيدة تغريد كانت المرأة الشجاعة القوية من بين جميع الذين كانوا على متن مركب الموت، في الوقت الذي يكون فيه الإنسان أضعف مخلوق لقلة الحيلة».
ويلجأ بشكل يومي آلاف السوريين، إلى الدول المجاورة، هرباً من الموت المحدق والأعمال الدامية، التي يمارسها النظام في سوريا تجاه المسلحين والمدنيين، على حد سواء، وتجاوز عدد اللاجئين في تركيا ولبنان والأردن والعراق المليون ونصف. ونتيجة للظروف السيئة، في مخيمات اللجوء، يسعى الكثير منهم إلى الهجرة غير الشرعية عبر البحر إلى دول أوروبا. ويضيف أحمد محرز، أن «أخته تغريد لم تفاتحه مطلقاً، بأمر السفر إلى أوروبا، منذ أن وطأت قدميها وعائلتها، إلى ليبيا هرباً من المجازر الدموية الدائرة حالياً في سوريا، موضحاً أنه «تفاجئ باتصال منها صبيحة يوم الخميس العاشر من أكتوبر تخبره، قرارها بالسفر إلى أوروبا»، ويقول «طلبت منها أن تتريث ولا تسافر بهذه الطريقة الخطرة، مذكراً إياها بغرق مركب قبيل يومين على متنه مهاجرون أفارقة، وأن السفر عبر البحر محفوف بالمخاطر، إلا أنها أكدت عزمها على السفر، وقالت: «توكلت على الله واشتريت أربع طوفات، والقرار أصبح نافذاً، مطالبة إياه بالدعاء لها ولعائلتها وأن يسامحها». وتشهد المياه الأوروبية خصوصاً الإيطالية حوادث غرق متتالية لمهاجرين غير شرعيين، حيث لقي الشهر الماضي، نحو 274 مهاجراً حتفهم في القارب الذي غرق قرب جزيرة لامبيدوزا في إيطاليا، وأغلبهم من أريتيريا والصومال. وقال حرس السواحل الإيطالي إن عشرات الأشخاص بينهم نساء وأطفال لقوا حتفهم في انقلاب زورق يقل نحو 400 مهاجر بين صقلية وتونس، في ثاني حادث من نوعه خلال أسبوع.
ويقول محرز إن: «ثمة تقصير كبير، شهدته هذه المسألة سواء من ناحية المعارضة السورية، أو من ناحية الحكومة الإيطالية، التي لم تعمل بالشكل المطلوب لإنقاذ الضحايا، خصوصاً أن حادث الغرق وقع على المياه الدولية الإقليمية الإيطالية، وليس على المياه الإقليمية المالطية»، مضيفاً أن «حكومة جزيرة مالطا أنقذت معظم الضحايا والأحياء، ويؤكد أن المأساة جعلته يأخذ عهداً على نفسه في متابعة قضية غرق السوريين والفلسطينيين إلى النهاية، وسيبقى يبحث ويتقصى عن المسؤولية التقصيرية، التي لفت هذه الواقعة الأليمة».
ويضيف محرز «لدي إثباتات وأدلة قاطعة أن هناك أكثر من مائة مفقود، إذ في كل يوم أحصل على صور وأسماء جديدة، مؤكداً أنه لن يسكت عن ذلك مهما كلفه الأمر ولن ينسى صوت الأمهات وهن يصرخن بحثاً عن ولد أو زوج أو أخ». ويقول إن: «كل الذين غرقوا في المتوسط أو مازالوا مفقودين، هربوا من الموت بنار الحقد والكراهية، ليموتوا غرقاً في بحر حسبوا أمواجه أجنحة تحملهم إلى حيث الأمان والاطمئنان، إلا أن ظنهم خاب بفعل تجار المهربين تجار الموت». تغريد مازالت مفقودة في البحر الأبيض المتوسط إلى جانب العشرات من السوريين والفلسطينيين، ومازال الألم يعتصر شقيقها أحمد، وزوجها الذي نجا مع ابنته لمار من الحادث الأليم، ويتأملون من الله أن يعرفوا شيئاً عن ذكرها، بعد أن أغلقت الحكومة الإيطالية ملف الواقعة، وأقامت جنازة رمزية على أرواح الشهداء حضرها جمهور غفير من الأوروبيين، وغاب عنها أصحاب القضية السوريين والفلسطينيين.