كتب - أمين صالح:
عاشت حياتها (أو: إنها حياتي) My Life to Live وبالفرنسية
Vivre Sa Vie هو الفيلم الرابع للمخرج الفرنسي جان لوك جودار والذي يمثل اتجاهاً جديداً مهماً في مسيرته، حيث المشاهد المركبة بعناية، والتكوينات البصرية الشكلية، والتحديات التجريبية للتقاليد السينمائية. في الواقع، كل فيلم جديد لجودار هو بمثابة انطلاقة جديدة يطرح فيها معضلات معينة يتعين عليه أن يبحث عن حل لها.
يقول جودار (مجلة كاييه دو سينما): «بهذا الفيلم لم أكن أعرف حقاً ما سوف أفعله. إني أفضل أن أبحث عن شيء لا أعرفه على أن أكون قادراً على إتقان العمل مع شيء أعرفه. في الواقع أنا حققت الفيلم كما لو كنت مدفوعاً بقوة إلى الأمام، مثل مقالة مكتوبة في جرعة واحدة. للفيلم ذلك النوع من التوازن، والذي يعني أنك فجأة تشعر بأن الحياة مريحة لساعة أو يوم أو أسبوع. بطلة الفيلم (أنا كارينا) لم تكن سعيدة كثيراً لأنها لم تكن تعرف مسبقاً ما الذي يتعين عليها فعله، لكنها كانت صادقة جداً في رغبتها لفعل شيء. وأنا، من جهتي، من دون أن أعرف حقاً ما الذي سوف أفعله، كنت صادقاً جداً في رغبتي لتحقيق الفيلم الذي نجحنا في خلقه. ما أذهلني، في مشاهدة الفيلم من جديد، أنه بدا مركباً بدقة وعناية أكثر من أي فيلم لي، في حين أنه في الواقع لم يكن كذلك. أنا أخذت المادة الخام وهي شكلت نفسها».
الفيلم هو مزيج ثري من أجزاء من السيرة الذاتية والرصد الجمالي وسبر القضايا الاجتماعية وتحري الوضع البشري. جودار كالعادة يتحدى نفسه لمحاولة تحقيق أفلام بطريقة مختلفة في كل مرة، ومع هذه المحاولة يقوم باكتشاف مجموعـة جديدة من أدوات التعبيــر التي قد تحدد مسيرته اللاحقة.
يقــــول جــودار (المصــدر نفســه): «تحقيق هذا الفيلم كان أشبه بانتزاع اللقطات من جوف الليل، كما لو كانت اللقطات في قعر بئر وينبغي جلبها إلى الضوء. عندما أسحب لقطةً، كنت أقول لنفسي، كل شيء موجود هناك، لا تغييرات. فيلمي (المرأة هي المرأة) كان مختلفاً، إذ كنت أبحث عن أشيــاء معينة: العنصر المسرحي كمثال. العنصر نفسه التقطته في (عاشت حياتها) لكن من دون أن أخبر نفسي أن علي فعل كذا وكذا لأحصل عليه. كنت أعلم أنني سأحصل عليه».
الفيلم يقتفي رحلة نانا (أنا كارينا)، المرأة الباريسية الشابة، الطموحة والمحبطة، العاملة في متجر، من حلمها بأن تكون ممثلة إلى مومس محترفة.. «إنها المرأة التــي تبيــع جسدها، لكن تحتفظ بروحها، فيما تمضي عبر سلسلة من المغامرات التي تتيح لها أن تختبر كل العواطف الإنسانية العميقة الممكنة».
إن حركتها نحو الدعارة، وبالتالي إلى عالم عدائي محفوف بالمخاطر، تأتي بدفع من الحاجة المادية واليأس الوجودي. هي أم تشعر بعجزها عن تربية ابنها الذي لا نراه، فتضطر إلى وضعه تحت رعاية صديقة. نحن نراها في بداية الفيلم تترك زوجها لتتبع حلمها بأن تصبح ممثلة لكن ينتهي بها الحال إلى تعرضها للخيانة والهجر والموت ضحية عنف طائش.
يقول جودار (مجلة Sight and Sound): «قبل الشروع في كتابة الفيلم، خطر لي أن أجعله يبدأ من حيث انتهى فيلم (على آخر نفس). باتريشيا، في ذاك الفيلم، نراها من الخلف، وتواجهنا للحظة وجيزة. في هذا الفيلم، فكرت أن يبدأ بالفتاة مرئيةً من الخلف. لم أعرف السبب. كانت الفكرة الوحيدة التي خطرت لي، ولم يكن بوسعي أن أخبر أنا (كارينــــا) بالمــــزيــد، لــذا كان عليهــا أن تبحــث دون أن تعرف ما أريده».
جــودار يقــدم مزيجــــاً من دراسة الشخصية، والنقــــد الاجتماعـــــي، وتراجيديا الواقع، في 12 لوحة متميزة، العديد منها مؤلفة من لقطات طويلة مركبة بعناية، صورها راؤل كوتار. هــذه المشاهد، من جهة، عبـارة عن بورتريه استفـــزازي تحريضــي عــن السياســـة الاجتماعية والجنسية. من جهة أخــرى، هـــي حكايـــة امرأة طائشة عاطفياً، ضحلة ثقافياً، تتعرض طموحاتها وأفعالها للمراقبة والكبح.
يقول جودار (مجلة كاييه دو سينما): «تقسيم الفيلـم إلــــى 12 تابلــوه أو مشهـــد كان لغرض توكيد الجانب المسرحي، البريشتي. نهاية الفيلم أيضاً هي مسرحية جداً، أكثر من المشاهد الأخرى. علاوة على ذلك، هذا التقسيم ينسجم مع النظرة الخارجية للأشياء التي سوف تتيح لي، علـــى نحو أفضل، الشعور بمـــا يحدث في الداخل».
في هذا الفيلم لم يعتمد جودار على الكاميرا المحمولة باليد، ولا على الارتجال والمباشرية، لكن من غير أن يلتزم بالتقنية التقليدية في صنع الفيلم..
يقول جودار (مجلة كاييه دو سينما): «الكاميرا في هذا الفيلم تكون شاهدة». إن جودار يصور المشهد الافتتاحي، حيث يدور حوار بين البطلة وزوجها الذي تقرر هجره، من الخلف.. لا نـرى وجوهاً بل مؤخرة الرأس، في لقطات متقاطعة. هذه الوسيلة تضفي على المشهد نوعاً من التجريدية، وتحول دون أي محاولة يقوم بها المتفرج للارتباط العاطفي المباشر مع الشخصيات.
يقــــــــول جـــودار (Sight and Sound): «فيلمي مدين بالقليل جداً إلى المونتاج، ذلك لأنه عبارة عن مجموعة من اللقطات موضوعة جنباً إلى جنب، وكل واحدة منها ينبغي أن تكون متمتعة باكتفاء ذاتي. الشيء الغريب أن الفيلم يبدو مبنياً بدقة وعناية في حين أنني حققته بسرعة شديدة، تقريباً كما لو كنت أكتب مقالة من دون الرجوع إليها لإجراء التصحيحات. هكذا أردت أن أحقق الفيلم دون أن أصور المشهد ثم أحاول تنفيذه بطريقة أخرى، مع أنني أعدت تصوير لقطة أو لقطتين. لقد شعرت بأن علي أن أكتشف في الحال ما أريد أن أفعله، وأن أنفذه، وإذا بدا جيداً فسيكون كذلك من المرة الأولى».
الفيلــم، من بعض النواحي، دراسة سوسيولوجية، وثائقية تقريباً، عن آليات الدعارة في باريس الستينيات. لكنه أيضاً فيلم فلسفي على نحو صريح، يبحث في مفهوم اللغة، ويتأمل الاختلاف بين الوجود والجوهر، ويتطرق إلى كيفية ترجمة الفن للحياة. في الأخير يتضح أن الفيلم ليس عن الدعارة ومأساة امرأة فحسب، بل أيضاً، وبصورة أكبر، عن قضايا كونية: عن الحقيقة المراوغة، وعن معضلة الوجود.