الدكتور محمد عبدالغفار *
لقد أضحى مصطلح الاستراتيجية من المصطلحات الشائعة في المجالات كافة، بل لدى الأفراد والمؤسسات، وبغض النظر عن اختلاف المفهوم باختلاف مستخدميه فإن ما يجمع بين هؤلاء إدراكهم أن الاستراتيجية شيء له أهمية غير عادية، حيث إن الاستراتيجية هي خطط منظمة تنقلنا إلى ما هو أبعد من اللحظة الراهنة.
وعلى الرغم من أن أصول تلك الكلمة اليونانية الأصل strategeos كانت عسكرية ويقصد بها «فن قيادة وإدارة الجيش» فإنه سرعان ما تعددت استخداماتها حديثاً في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية كافة، ومن ثم فإن العديد من التعريفات قد أجمعت على أن الاستراتيجية لدى الدول «هي علم وفن تنسيق استخدام القوة الوطنية بعناصرها السياسية والاقتصادية والعسكرية لتحقيق أهداف الدولة الوطنية»
أولاً: التخطيط الاستراتيجي: المفهوم والتاريخ
كلمة استراتيجي هي كلمة يونانية الأصل، ووفقاً لموسوعة المعارف البريطانية، فإن الشخص الاستراتيجي strategos هو العسكري أو الجنرال بالإضافة الى وظائف أخرى ذات نطاق أوسع كما إنه كان الشخص الذي كان يعمل كمسؤول رفيع في بيزنطة في القرون الوسطى.
وكان يتم تكوين مجلس استشاري من عشرة استراتيجيين في أثينا لتقديم النصيحة خلال الحروب المختلفة التي خاضتها اليونان، أي أن الشخص الاستراتيجي كان يتم تعيينه لمهمة محددة، وقد يتم تعيين العديد من الأشخاص الاستراتيجيين لعملية معينة، وأحياناً يتولى شخص استراتيجي واحد قيادة حملة على نطاق صغير، وأحيانا يتم إسناد مهمة كبيرة للاستراتيجيين العشرة، ويعتمد ذلك بصفة أساسية على السمات الشخصية لهؤلاء.
بينما في القرن الخامس قبل الميلاد فإن مهمة الاستراتيجي قد اختلفت حيث كان يقوم بممارسة نفوذ سياسي وخاصة في الشؤون الخارجية، ومنها إدارة المفاوضات مع الدول الأجنبية، ويكون من بين الأشخاص الذين يبرمون المعاهدات الدولية المهمة.
أما في العصر الحديث فقد تعدد استخدام مصطلح الاستراتيجية بشكل واسع ليس فقط في المجالات العسكرية إنما على نطاق واسع في المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية، بل لدى الأشخاص والمواقع لدرجة كاد معها أن يفقد معها ذلك المصطلح معناه الأصلي، وقد ارتبط هذا المصطلح بمصطلح آخر وهو التخطيط.
والاستراتيجية في كلمات بسيطة هي» فن تطبيق الوسائل لإنجاز الغايات» بما يعني أن أي جهد إنساني ينطوي على استراتيجية من نوع ما، حيث يلاحظ أنه في حقل الدراسات الأمنية يضيق المصطلح ويقتصر على استخدام القوة العسكرية لتحقيق الأهداف السياسية للدولة، ووفقاً لهذا المنظور فإن خيارات الخبراء الاستراتيجيين لا تحددها الحقائق والإمكانات المتاحة لديهم بل مدى وجود ثقافة استراتيجية من عدمه.
ثانياً: أهمية التخطيط الاستراتيجي تجاه قضايا الأمن الوطني والإقليمي
يهتم التفكير الاستراتيجي المستقبلي عموماً بعدة خطوات وهي تقدير الخطر، أو ما يطلق عليه في علم العلاقات الدولية Threat Assessment، وماذا ستكون عليه طبيعة الخطر وما مدى حجمه ونطاقه وأثره؟ ما الذي يمكن عمله لمواجهة أو تفادي هذا الخطر؟
وبوجه عام ينبغي التأكيد على أن تقدم الأمم وازدهارها يقاس بمدى وجود تفكير استراتيجي من عدمه، وليس أدل على ذلك من تجارب دول الشرق الأقصى وهي اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا والصين، تلك الدول التي دمرتها الحروب وعانت من الفقر وتحديات النمو السكاني، بيد أنها سرعان ما أضحت في مصاف الدول المتقدمة وذلك بفضل انتهاجها خططاً استراتيجية متكاملة، فضلاً عن الاهتمام بالإنفاق على البحث العلمي.
أما على المستوى العربي فقد اجتهدت بعض الدول العربية خلال الفترة ما بين الأربعينيات والتسعينيات من القرن الماضي في إقامة مشروعات وحدوية إيماناً منها بأن تلك الاتحادات من شأنها أن تؤدي إلى التقدم والازدهار وبناء القوة العربية، وقد بلغت حوالي 29 مشروعا للوحدة ومن تلك التجارب تجربة الوحدة المصرية السورية من 1958 -1961، مصر والعراق 1965، مصر والسودان وليبيا 1969 ، سوريا ومصر وليبيا عام 1971، بيد أنه لم يحالف أياً منها النجاح سوى تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة وكان ذلك نتيجة رؤية استراتيجية بعيدة المدى للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله .
ثالثاً: مؤسسات التفكير الاستراتيجي ودورها في دعم صانع القرار:
في العالم المتقدم تهتم الحكومات بوضع الاستراتيجيات، بينما مراكز الفكر الاستراتيجي هي من يقوم غالباً بإعداد الخطط التفصيلية لها، والجدير بالذكر أن أكثر من 60% من مساعدي وزراء خارجية الولايات المتحدة الأمريكية عملوا في مراكز تفكير استراتيجية.
وقد ازداد عدد مراكز التفكير الاستراتيجي في العالم منذ نهاية الستينيات وحتى الآن، ففي دراسة أصدرتها مؤسسة بحوث السياسات الخارجية التابعة لجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة عام 2012 أشارت إلى أن عدد هذه المراكز في العالم بلغ حوالي 6603 ،وتتصدر أمريكا الشمالية مناطق العالم بالنسبة لعدد تلك المراكز بواقع 1919 مركزاً بنسبة 29,1%، تليها الدول الأوروبية 1836 بنسبة 27,8%،تليها الدول الآسيوية 1194 بنسبة 18%،ثم أمريكا اللاتينية والكاريبي 721 بنسبة 11%،ثم أفريقيا 554 بنسبة 8,4%،بينما الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 339 بنسبة 5,1%، ثم «أستراليا ونيوزلندا»40 مركزاً، بنسبة 6%، بينما يوجد في إسرائيل حوالي 54 مركزاً للفكر الاستراتيجي.
وتجدر الإشارة إلى أن عدد الباحثين في الدول العربية، ما زال دون الرقم المطلوب؛ إذ يوجد 300 باحث لكلّ مليون شخص، بينما يصل العدد في الدول الغربية المتقدمة إلى أربعة آلاف باحث لكل مليون شخص.
وتقدم الأرقام الواردة في إحصاءات اليونسكو وتقارير التنمية الإنسانية العربية صورة غير إيجابية عن كيفية تعامل الدول العربية مع الأبحاث.
فنسبة التمويل العربي للبحث العلمي» العلوم الاجتماعية والطبيعية» تتراوح بين 0.1% و0.3% لمجمل الوطن العربي، وتدخل ضمنها النفقات الإدارية؛ في حين تصل في السويد وفرنسا مثلاً إلى 3% من الموازنات العامة. أما في إسرائيل، فتصل نسبة الإنفاق على الأبحاث العلمية إلى ما يوازي 4.7% من الموازنة العامة للدولة، وما يوازي 30% من الموازنة الحكومية المخصصة للتعليم العالي.
من ناحية أخرى يلاحظ أن مجموع الأبحاث في الوطن العربي، لا يتعدى 15 ألف بحث، ويبلغ عدد أعضاء هيئة التدريس في الجامعات والمعاهد العليا، حوالي 55 ألف أستاذ، أي أن معدل الإنتاجية هو في حدود 0.3%. وفي المقابل، يبلغ معدّل الإنتاجية في الدول المتقدمة نحو 10%
وفي العلاقات الدولية، يلاحظ أن السياسات الخارجية للدول الغربية تكون تطبيقاً واضحاً لاستراتيجيات يتم وضعها ربما كل ثلاث أو خمس أو عشر سنوات، ومنها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا، ومنها استراتيجيات خاصة عن منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي تسمى military posture،فعلى سبيل المثال أصدرت الولايات المتحدة استراتيجية الأمن القومي لعام 2010، فضلاً عن إصدار حلف الناتو مفهومين استراتيجيين عامي 1999 و2010 بشأن التهديدات الأمنية التي تواجه أعضاءه، كما أصدرت فرنسا ما يسمى «الورقة البيضاء لعام 2013 حول السياسة الدفاعية الفرنسية الجديدة»، أما روسيا فقد أصدرت استراتيجية الأمن القومي الروسية حتى عام 2020 والتي صدرت عام 2009.
رابعاً: دور التخطيط الاستراتيجي في نجاح خطط التنمية:
يقول مثل انجليزي مشهور «لا ينجح شيء في هذه الحياة أكثر من النجاح» وتعكس تلك الكلمات البسيطة مدى أهمية التخطيط الاستراتيجي وبخاصة في المجال الاقتصادي، وهناك نماذج عديدة، ومنها الدول الآسيوية الصاعدة حيث اعتمدت كل من وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا لنهوضها الاقتصادي خططاً واستراتيجيات تنموية طويلة الأجل حققت نجاحات كبيرة ،فعلى سبيل المثال وضعت ماليزيا ما يسمى بالخطة الاستشرافية الأولى من عام 1971 وحتى عام 1990أعقبتها بما يسمى السياسة التنموية الجديدة التي صاغت ملامح الخطة الاستشرافية الثانية في الفترة من 1991-2000 ضمن منظور أبعد مدى وهو رؤية العام 2020 واستهدفت تلك الخطط زيادة متوسط الدخل وتقليل معدلات الفقر، من خلال المزاوجة بين التدخل الحكومي ودور القطاع الخاص، وكانت أهم نتيجة هي أن ماليزيا قد استطاعت خلال ثلاثة عقود من عام 1970-2000 تخفيض نسبة الفقر من 52,4%إلى 5,5%.
-ولقد أطلقت مملكة البحرين الرؤية الاقتصادية 2030، في أكتوبر 2008 وتستهدف بلورة رؤية حكومية متكاملة للمجتمع والاقتصاد ، حيث تسعى إلى إيجاد توجه واضح لتطوير اقتصاد المملكة مع التركيز على هدف أساسي يتجلى في تحسين المستوى المعيشي لجميع مواطني المملكة.
- والجدير بالذكر أنه حينما انتشرت ثقافة التخطيط الاستراتيجي في الدول العربية عموماً ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية على نحو خاص، فقد استعانت ببيوت الخبرة العالمية لوضع استراتيجيات لقضايا متعددة، وقد لوحظ أنه في الكثير من الحالات كانت تلك الاستراتيجيات لا تستطيع أن تحقق الأهداف المرجوة، حيث أن بيوت الخبرة تلك كانت تضع استراتيجيات وفقاً لنظريات وتجارب نبتت وترعرعت في منبت غير منبتها، ومن ثم كانت تفتقد هذه الاستراتيجيات الحس المحلي والروح الوطنية الأمر الذي أفقدها مضمونها.
-وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى تجربة إندونيسيا مع العالم الألماني الاقتصادي «شاخت «، حيث إن المجتمع الإندونيسي عاش في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي متحمساً للخبرات الأجنبية، من أجل النهوض باقتصاد إندونيسيا، فاستقدمت إندونيسيا عالماً مشهوراً في مجال التخطيط الاقتصادي هو الدكتور «شاخت «، ووضعت تحت تصرفه كل البرامج، والخطط، والأفكار، بيد أنه لم يحالفه النجاح في مخططه للنهوض باقتصاد إندونيسيا، ولم يتوقع المجتمع الأندونيسي ذلك على الرغم من أنه التزم في عمله بدقة فنية، وتوافرت له وسائل مادية وبشرية، كانت كفيلة بنجاح مخططه منها أن أرض إندونيسيا خصبة ويمكنها الإنتاج في ثلاثة مواسم، كما إن الله حباها بكل أنواع المعادن وخاصة البترول، وكان يقطنها ما يزيد على مائة مليون نسمة آنذاك، إلا أن شاخت قد وضع تخطيطاً وفقاً لقناعته الشخصية، وبخلفيته الاجتماعية، كفرد من المجتمع الألماني، في حين أن ذلك يختلف بشكل جذري عن الواقع الإندونيسي، بما يعني أن الخطط التنموية يتعين أن تعكس خصوصية وهوية المجتمع الذي سوف يتم تطبيقها فيه، كما إن دول العالم الثالث مهما استعانت ببيوت خبرة أجنبية فإنها لن تستفيد الاستفادة المثلى منها إذا لم تقم هي بإعداد كوادر وطنية متخصصة في الفكر والتفكير الاستراتيجي.
خامساً: أهمية التخطيط الاستراتيجي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية
مما لا شك فيه أن هناك أهمية بالغة لإيلاء موضوع التخطيط الاستراتيجي أهمية على مستوى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، أو على المستوى الإقليمي، وذلك لسببين أساسيين:
أولهما: أن دول مجلس التعاون هي دول نفطية تقع ضمن محيط إقليمي مضطرب مما يجعلها في حالة أزمة مزمنة بسبب الصراع الإقليمي-الإقليمي، والإقليمي الدولي على منطقة الخليج العربي.
وثانيهما: ما حققته تلك الدول من تطور سياسي، ومنجزات تنموية بحاجة إلى الحفاظ عليها من خلال رؤى وتخطيط استراتيجي على المديين القريب والبعيد، سواءً في كل دولة خليجية على حدة أو على مستوى مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومنها على سبيل المثال مقترح العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز بضرورة تحول دول المجلس من حالة التعاون إلى حالة الاتحاد، حيث إن تنفيذ ذلك المقترح يحتاج إلى خطط استراتيجية محددة، من ناحية أخرى وفي ظل المستجدات الأمنية التي تواجهها دول المجلس فإنها بحاجة إلى مفهوم استراتيجي واضح وذي معالم محددة.
من ناحية ثالثة فإن دول مجلس التعاون باعتبارها مركزاً للثقل النفطي العالمي، وفي ظل المخاطر التي تحيط بأمن الطاقة فإنها أحوج ما تكون إلى مسألة التخطيط على مستويين:
أولهما: تكتيكي من خلال ترسيخ ثقافة إدارة أزمات محتملة في منطقة الخليج العربي وتداعياتها على أمن الطاقة.
وثانيهما: استراتيجي من خلال وضع الأفكار الخاصة بإقامة طرق بديلة لنقل النفط الخليجي إلى الدول الغربية المستهلكة لها موضع التنفيذ.
بل أن النفط كسلعة قابلة للنضوب يتطلب خططاً استراتيجية من دول مجلس التعاون لتنويع مصادر الدخل، وقد قطعت تلك الدول شوطاً في هذا المجال.

* مستشار جلالة الملك للشؤون الدبلوماسية / رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة