كتب - أمين صالح
في فيلمه الشهير «رجل وامرأة» خلق كلود ليلوش تأثيراً تقنياً جديداً وفعالاً عندما استخدم، لأول مرة في السينما، مواد خامٍ فيلمية مختلفة، دامجاً الأسود والأبيض مع الفيلم الملــون، ومازجاً الصور المأخـــوذة بكاميرا 35 ملي مع تلك المأخوذة بكاميرا 16 ملي وسوبر 8..
اعتبر رائداً في توظيف هذه المواد، غير أنه يعلق ضاحكاً: «السبب الرئيـــس الذي جعلني أستخـــدم الأسود والأبيض والملون معاً في (رجل وامرأة) هو لأنني كنت أفتقر إلى المال اللازم لتغطية نفقات الفيلم فلجأت إلى الأسود والأبيض لأنه كان أرخص آنذاك. وجاء النقاد ليمدحوا هذا التوظيف ويبحثوا عن الأبعاد الرمزية، في حين أن الدافع كان مالياً صرفاً وليس رمزياً. هذا مثال يؤكد أن المشاكل والمعضلات والكوابح والقيود غالباً مـــا تولد لديك، أو تساعدك علـــى اتخاذ، قرارات إبداعية عظيمة».
فــي العــام 1977 خــاض تجربــة تحقيــق فيلــم في أمريكــا بعنـوان «رجل آخر، فرصة أخرى» Another Man, Another Chance، وهــــو من نوع الويسترن العاطفي، وعن هذه التجربة يقول ليلوش:
«تلك كانت ذكرى رائعة. اعتقـــدت أنني سأتعلم اللغة الإنجليزية، لكن للأسف لم يحدث ذلك. كنت محظوظـــاً إذ استطعـــت أن أنجــز الفيلـــم في الولايات المتحدة كمـا لو كنت في أوروبا. لم يكن الوضع مختلفاً. ولم تكن هناك قيود أو كوابـــح أو ضغوط. وقد أتيحـــت لـــي الحرية الكاملة في التنفيـــذ والمونتاج. شعرت بأنني طالما لا أتحدث الإنجليزية بطلاقة، فهذا ســــوف يفضي إلى اختزال الحـــوار والأشياء الأخرى، أو تحد منها. كان ذلك نوعاً من التقييد والكبح. إنـه فيلم يدمج ولعي بقصص الحــب، وولعي بأفلام الويسترن. كما إن تعاوني مع الممثل جيمس كان James Caan كان مثمراً. أداؤه كـــان رائعـــاً. أعتقـــد أن بإمكانـه أن يصبح واحداً من بين أعظم الممثلين الأمريكان. العمل معه حلم أي مخرج».
في مسيرته الفنية، صادف كلــــود ليلوش الكثير من رأي النقاد السلبي الجارح، والإخفاق التجاري والمحن المالية. بل إنه في العـــام 2004 عانى من خيبة أمل شديـدة وخطيرة حين عرض فيلمه Les Parisiens لكن فشل فشلاً ذريعـاً وهاجمــه النقـــاد بضـــراوة، إلــى حد أنه قرر أن يلغي فكرة خلق جزأين آخرين من الفيلم (كثلاثية) رغم أنه صور الجزء الثاني لكن عرضه كفيلم منفصل بعنوان Le Courage d'Aimer الذي فشل بدوره بشكل أسوأ.
عندئذ قرر ليلوش أن يتخذ خطوة غير مسبوقة، فقد حقق فيلمه Roman de Gare (الترجمـــــــــة الحرفيـــة: الروايات التي تقرأ فـــي المطارات) لكن باسم مستعار، فيقول: «حققت هذا الفيلم تحـــت اسم مستعار. طوال تصوير الفيلم تظاهرت بأن شخصاً آخر ينفذ الفيلم، وأن الكل سيتركني في حالي. هكذا أمضيت وقتاً رائعاً وأنا أعمل في الفيلم».
لقد اختار الاختباء خلف اسم صديقه لاعب التنس المحترف هيرف بيكار، مدعياً أنه منتج الفيلم فحسب، متجنباً بذلك مختلف الضغوطات.
عندما عرض الفيلم، بوصفه المنتج، على منظمي مهرجان كان.. «اعتقدوا أنهم اكتشفوا مخرجاً شاباً جديداً رائعاً».. حســـب تصريحـه. فقـــط عندمـــا وافــــق المهرجان على مشاركة الفيلم في المسابقة الرسمية، كشف ليلوش الحقيقة. والمهرجان تبنى فكرة الاحتفاء بتجربة ليلوش ومرور 50 سنة منذ أن بدأ اشتغاله بالمجال السينمائي.
الفيلم عن كاتب محترف في الخفاء، أي ذاك الــذي يؤلــف لأشخـــاص آخريــــن يضعون أسماءهم علـــى كتبه مقابل مكافأة مادية. وهـــو هنا الخالق السري لكتب حققت رواجاً باسم امرأة مشهورة. يلتقي بفتاة هستيرية تركها خطيبها في محطة استراحة تقع على جانب الطريق العام.
يخبرها عن حقيقته لكنها لا تصدق أن كاتبتها المفضلة هي مخادعة، بل أنها تشك فيه وتعتقد أنه القاتل الهارب من السجن.
للصدفة والمصادفات دور كبير في دفع الحبكة وأخذها إلى اتجاهات عديدة مختلفة ولا يمكن التنبؤ بها.
في حديثه عن الفيلم، يقـــول ليلوش: «إنه فيلم مبني على طريقة الأفلام الإثارية (البوليسية)، لكن في الوقت نفسه هو فيلم عن الإبداع، الذي فيه أنا أكشف قليلاً عملية اختراعي للقصص، كيف أغذي نفسي من خلال الأشخاص الذين ألتقي بهم. قبل ثلاث أو أربع سنوات كنت أملأ خزان السيارة عند محطة وقود عندما شاهدت رجلاً وامرأة يتجادلان، ثم يركب هو سيارته ويبتعد عنها تاركاً إياها هناك. قلت لنفسي، يوماً ما سوف أحقق فيلماً عن هذا».
وعن الفيلم نفسه، يضيف ليلوش:
«هذا الفيلم جاء نتيجة اشتغالي في السينما لمدة خمسين سنة. حاولت فيه أن أمزج البراعة الحرفية والعفوية. إنه فيلم عن الحياة بكل تناقضاتها، مع دمج لكل الأنواع الفنية. مشاهد الحياة تأسرني، كذلك قوة الأكاذيب، لأنني أخشى أن الأكاذيب صارت هي التي تقود العالم، أكثر من الصدق.. خصوصاً في أيامنا هذه. الكذبة هي إلى حد ما أشبه بقرض من البنك، ونحن نرى اليوم كيف ينهار عالم الديون المصرفية. قريباً سوف ينهار عالم الأكاذيب أيضاً».