كتب - إسماعيل الحجي وأحمد الجناحي:
باب البحرين قصة أبدعها أجدادنا بأيديهم، رووا تفاصيلها حجراً حجراً وزاوية زاوية، أرادوا لقصتهم أن تدوم.. أن تواجه عاديات الزمن.. أن تتوالد وتورث وتجدد وتبقى القصة الأصلية على حالها، إرثاً يحفظ جوهره ويقبل التحديث.
وأنت تعاين تفاصيل المكان، الأبواب والشبابيك والمقنطرات والأرصفة، الدواعيس المتفرعة عن شارع السوق الأصلي مثل الشرايين والأوردة، تطالعك لوحة حفظت اسمها في سفر الخلود، ودمغت صورتها في ذاكرة الأجيال، وصدرت الباب بعبارة غير مكتوبة «التاريخ كان هنا.. وهنا المستقبل أيضاً».
في الطريق إلى باب البحرين ثمة مشكلة، تبدو صغيرة وقابلة للحل ولكنها معقدة، وتتلخص في أن رواد المكان وزائري السوق لا يجدون مواقف لسياراتهم، هم يضطرون للمشي مسافات طويلة حتى يصلوا إلى ضالتهم، وقد يعودون أدراجهم بعد أن تعييهم الحيلة في الحصول على «بارك» شاغر.
إلى يمين الداخل يفتح باب خشبي ضخم مصراعيه على «صندوق الجواهر»، محل لبيع التحف «الأنتيكات»، ويفخر صاحبه وسيم باقتناء قبعة مصدرها جبال التيبت ثمنها 650 ديناراً، قبعة قماشية نال الدهر حظه منها، مرصعة بأحجار كريمة فيروزية اللون معرقة بالأسود، ويقول إنه باع قبعتين منها لسائح أمريكي بسعر 400 دينار لكل واحدة.
إلى جوار سوق الباب، في إحدى الحواري يترامى بهدوء مقهى عبدالقادر، بكراسٍ احتلت جانبي زقاق ضيق غير مرصف، تتقدمها طاولات واطئة مستطيلة الشكل، صاحبه عبدالقادر جاوز عتبة السبعين بقليل، على صفحة وجهه الباسم تقرأ حكاية عشق مع المكان بدأت قبل 38 عاماً ولما تنته.
سوق باب البحرين
أثناء تجوالنا في سوق باب البحرين بعد الغروب، كانت الحركة خفيفة ومرتادو السوق قلائل، ويقول أصحاب المحال التجارية إنها تنشط عادة في فترة الصباح، بين سبتمبر وفبراير خاصة، ويرتبط نشاطها عادة بالمواسم الثقافية والترفيهية.
وزارة الثقافة أطلقت مشروعاً لإعادة إحياء منطقة باب البحرين، شملت تجديد السوق القديم ورصفه، مع تركيب بوابات خشبية ضخمة للمحال التجارية، تتألف من قطع خشبية مستطيلة الشكل وطويلة، تتعشق مع بعضها البعض بمفصلات نحاسية تتيح طي الباب حين فتح المحل، بمقابض وتعريقات ذهبية زاوجت الأصالة بالمعاصرة، وحاكت الأبواب التقليدية الذي عرف به السوق قديماً.
بموازاة السوق القديم أحدث سوق بطرز عصرية يحتفظ بطابعه التراثي، بطاولات خشبية موزعة بالردهات، وعليها تحف ومقتنيات بعضها محلي وبعضها الآخر جلب من أصقاع الأرض، وإلى اليمين بيت «الخوص» التابع لوزارة التنمية الاجتماعية، حيث تعرض مشغولات الأسر المنتجة، ومحال أخرى لبيع العطورات والحلوى البحرينية والتوابل وأنواع الشاي والقهوة، وعند صعودك للطابق العلوي بدرج كهربائي ـ يكاد يكون التفصيل الوحيد المتنافر مع ثيمة المكان ـ تواجهك محال بيع التحف والسجاد ومكتب البريد وشركات السياحة والسفر والطيران.
التراث والمعاصرة
يعكس سوق باب البحرين الهوية الفريدة للسوق التقليدي، وهذه الثيمة واضحة في تفاصيل المكان، حيث السوق مغطى بقطعة قماشية تأخذ شكل الخيم المتقاربة والمتوازية في الشطر القديم من السوق، واستعيض عنها بالألواح الزجاجية المركبة بشكل مائل في القسم الحديث، مع أرضيات مبلطة بأحجار بازلتية.
جهود وزارة الثقافة والشركات المتعهدة لإعادة إحياء السوق، واضحة في حفظ الطرز العمرانية التقليدية، حيث الأقواس نصف الدائرية لمدخل ومخرج السوق، والأشكال الهندسية في تصميم أجزائه وأرضيته وأسقفه وجدرانه، مع الإضافات والتحسينات بالرسوم النباتية المستوحاة من الإرث الإسلامي.
يتكون مشروع سوق باب البحرين من 31 محلاً تجارياً و8 أكشاك، منها 7 محلات تقع في الواجهة الرئيسة لشارع باب البحرين، و6 محلات في ردهة المبنى، إلى جانب الأكشاك والمقاهي المنتشرة في أرجاء المجمع، في الطابق الثاني 17 محلاً تطل جميعها على ساحة الردهة.
وكان وضع تصميم مبنى باب البحرين عام 1945 السير تشارلز بيلجريف مستشار حكومة البحرين آنذاك، وتم تجديده مع حفظ مواصفاته المعمارية الإسلامية عام 1986، وظل باب البحرين على مر العقود بمثابة بوابة اقتصادية لتبادل البضائع وبيع المنتجات الواردة إلى سوق البحرين، قبل أن يجدد مرة أخرى ويعاد تأهيله ضمن تظاهرة المنامة عاصمة للسياحة العربية 2013.
صندوق الجواهر
لم نجد وصفاً لـ»صندوق الجواهر» لصاحبيه وسيم وجوهر سوى «متحف الحضارات»، هناك تجد مجموعة فريدة ومنوعة من المقتنيات تعود لمختلف الحقب والحضارات، فارس والهند وتايلند والتيبت وبلاد العرب كانوا موجودين، عبر أغطية الطاولات والأقنعة والمباخر والأبواق والمجسمات وعلب الهدايا والعملات القديمة.
داخل طاولة بلورية احتفظ وسيم بدنانير عراقية تحمل رسم الرئيس الراحل صدام حسين، ويفاخر وسيم بقبعة «ملكية» قادمة من جبال التيبت، قبعة قماشية لونها كالح نال الدهر حظه منها، مرصعة بأحجار كريمة فيروزية اللون معرقة بالأسود، محاطة بثلاثة صفوف من الأحجار الأخرى مختلفة الألوان والأشكال، ويقول إن سعرها 650 ديناراً فقط!.
سألناه وهل هناك من يشتري مثل هذه القبعة البالية بهذا السعر المرتفع؟.
ـ أجاب ضاحكاً «بالتأكيد أنت تمزح.. هذه قبعة ملكية.. الأسبوع الماضي بعت اثنتين لسائح أمريكي بـ400 دينار لكل واحدة».
ـ هل راعيته بـ250 ديناراً عن كل قبعة؟
ـ لا كانت القبعات أصغر حجماً وأقل كلفة.
ثم مشيراً إلى مجسم لجمل نحاسي يقف متأهباً عند مدخل المحل «ذاك الجمل بـ2500 دينار فقط.. اليوم ينتظر في المحل وقد يشد الرحال في أية لحظة».
أغلب زبائن «صندوق الجواهر» من أوروبا وأمريكا ـ ذوي الملاءة وغريبي الأطوار ـ وبعض الأحيان يتوافد الخليجيون وينقدون ثمناً لقطعة قد لا يجدون لها لزوماً في منازلهم.
يستورد الأخوان وسيم وجوهر بضاعتهم من الهند خاصة، شريك البحرين التجاري القديم، هنا تعود بك الذاكرة إلى حكايا الأجداد وأساطير الغوص واللؤلؤ، يمخرون عباب البحر موجهين شطر الهند، يملأون أرضهم لؤلؤاً ويعودون محملين بالتوابل والحرير.
ومن باكستان وتركيا وتايلند وبقاع الأرض شرقاً وغرباً جمع الأخوين «ثروتهم»، وهي معروضة للمزاد العلني، ويقول وسيم إن تجارتهم تنتعش ما بين سبتمبر وأكتوبر حالهم حال باقي تجار السوق وأربابه.
عند بيت الخوص
فور خروجنا من «صندوق الجواهر» يممنا شطر بيت الخوص، في القسم الحديث من السوق، شاب في ربيع العمر يضع بطاقة اسمية تعلن تبعيته لوزارة التنمية الاجتماعية.
محل صغير بأرفف خشبية على يمين ويسار الداخل وفي الواجهة، عليها مشغولات متنوعة من إبداع الأسر البحرينية المنتجة، وتشمل سفناً شراعية مختلفة الأحجام والأشكال، وسلال من الخوص، وفوانيس قديمة ومجسمات لبيت «العريش» والدمى والأكواب المزركشة وأغطية الموائد المطرزة والمنسوجات القطنية والصوفية.
خليل محمد الموظف ببيت الخوص يقول إنه يعرض منتوجات 11 أسرة «أسعار المنتوجات بمتناول الجميع، هناك سفينة شراعية كبيرة صنعتها أسرة بحرينية بـ65 ديناراً فقط، وتتوفر منها أحجام مختلفة أسعارها تتراوح بين 10 و15 ديناراً، وهناك صناديق مبيتة، وسلال وسفر طعام من الخوص وحب للماء وقبعات كلها منتجات تراثية يعرفها البحرينيون ويفاخرون بصناعتها».
الزبائن يتوافدون على المحل في عطل نهايات الأسبوع يقول خليل «خاصة عندما تطلق وزارة الثقافة مهرجانات ومناشط ترفيهية في باب البحرين تجتذب الخليجيين والأجانب والبحرينيين على حد سواء».
سجاد تبريز
سلكنا السلم الكهربائي في طريقنا إلى الطابق العلوي، دخلنا محل «قصر الشرق للتحف والسجاد»، في الداخل نجد أنواعاً مختلفة من السجاد متعدد الألوان والأحجام وبلد المنشأ، ويقول صاحب المحل إن بضاعته فريدة من نوعها، عالية الجودة، قيمة، وكلها مشغولة يدوياً ولا أثر فيها لعمل الماكينة.
استورد إمام طنطاوي بضاعته من إيران والهند وأفغانستان وباكستان وبلدان أخرى، أغلب السجاجيد المعروضة كانت قطعاً صغيرة المساحة، تصلح كأغطية للطاولات والتعليق على الجدران «هي ما يطلبه الزبائن الأوروبيون» على حد وصف إمام.
يعاين صاحب المحل تحفة فنية إيرانية الصنع يقول إنها مشغول يدوي من الحرير الخالص «ناعمة الملمس تصلح للجدران والأرضيات.. سعرها متدنٍ وبمتناول الجميع 800 دينار فقط ادفعها وامض بها إلى منزلك».
لا يخفي إمام امتعاضه من تدني حركة البيع والشراء بالمحل وبعموم السوق «شركة إدامة تتحمل المسؤولية كاملة، هي طورت السوق وأجرتنا المحال بأسعار خيالية ولم تؤد واجبها الإعلاني».
ويسأل «كيف استدللتم إلى السوق؟.. لا بروشورات ولا إعلانات بالصحف والتلفزيونات عن السوق وبضائعه ومعروضاته، زبائننا هنا زبائن الصدفة، عليهم توزيع ملصقات تعريفية عن السوق ومكوناته في المطار والفنادق والمرافق السياحية كافة».
يهدد إمام بترك المحل إن لم تخفض الشركة الإيجار «ننتظر نهاية العقد إما خفض الإيجار وإما إعلانات تعرف زوار البحرين والبحرينيون أنفسهم بوجود السوق وإما الرحيل».. قال ذلك وهو لا يكاد يرفع ناظريه عن تحفته الفنية الإيرانية ذات الـ800 دينار.
في مقهى عبدالقادر
بعد مشوار طويل في سوق البحرين والشوارع والحواري المتشعبة عنه، نالنا التعب وقصدنا مقهى شعبياً لطلب الراحة وشرب الشاي، عند أحد المنعطفات وفي زقاق ضيق ترامى مقهى عبدالقادر بهدوء، ركن مربع صغير لصنع ما يقدمه المقهى من مأكولات ومشروبات، وفي الخارج كراس طويلة متقابلة زرقاء اللون تحتل جانبي الزقاق، تتقدمها طاولات واطئة مستطيلة الشكل، وسقف المكان بقماش مخطط يقي رواد المقهى أشعة الشمس اللاهبة.
المقهى أشبه بموقف لانتظار الحافلات، الزبائن متقابلون يكادون يسمعون أنفاس بعضهم البعض، ويمكن أن يتصافحوا بالأيدي لو مدوا أيديهم فقط، والعابرون يمرون بين صفي الطاولات عبر ممر ضيق لا يكاد يسمح بعبور شخصين يمشيان سوياً.
صاحب المقهى عبدالقادر أحمدي يدب بين الكراسي ملبياً طلبات الزبائن وهو يحمل على كاهله 70 ربيعاً، غادر سني شبابه وحظه منها نشاط وافر وابتسامة لا تكاد تفارق محياه، هو وشقيقه عبدالله هنا منذ 38 عاماً، على وجهيهما وفي نبرات حديثهما تلامس حكاية عشق مع المكان بدأت يوماً ولما تنته.
سألناه كيف الحركة في المقهى فأجاب «تطلع حواليك وتعرف» بالفعل كان المحل يغص بالزبائن معظمهم من الجنسية الآسيوية يقول عبدالله الرجل الستيني إن البحرينيين يرتادون المقهى في الصباح قبل الذهاب لأشغالهم.
يبيع الأخوان الشاي و»النخي» و»الباجلة» والقيمة والخضرة والناشف والبيض وغيرها من الأكلات الشعبية المعروفة، ويتابع عبدالله «الزبائن هنا مثل هوه الشمالي مرة موجودين ومرة لا، كان في قهاوي كثيرة بالسوق والحين سكروهم وبقينا أحنا».
المقهى لا يقدم الشيشة على خلاف كل المقاهي الشعبية في البحرين، ما برره عبدالله بضيق المكان ووقوعه بشارع يعج بالمارة والمتسوقين «في الصيف أصلاً تقل الزبائن.. الحرارة قاتلة.. والمراوح الموجودة ما تسوي شي».
رفض الأخوان ثمن ما احتسيناه من أكواب الشاي، أصرا أنها ضيافة المحل، قالا إنهما في المرة القادمة سيتقاضيان حقهما كاملاً، مضينا من القهوة ومن باب البحرين ووطدنا عزمنا على تكرار الزيارة.