بقلم - د. أشرف محمد كشك:
لم يكن الاتفاق المبدئي الذي تم توقيعه في الرابع والعشرين من نوفمبر الجاري بين إيران والدول الغربية في جنيف بشأن الملف النووي الإيراني أمراً مفاجئاً، فهناك مفاوضات بين الجانبين منذ أكثر من عشر سنوات ومن الطبيعي أن يؤول مسار المفاوضات إما إلى النجاح أو الفشل، لكن المثير للجدل هو طبيعة الاتفاق وتوقيته، بل والأهم مدى ارتباط ذلك الاتفاق بترتيبات مستقبلية للأمن الإقليمي الخليجي وطبيعة الدور الإيراني فيها.
إن من يمعن النظر في بنود الاتفاق المرحلي، يجد أنه ليس سوى فرصة لالتقاط الأنفاس بين كل من إيران والغرب عامة والولايات المتحدة على نحو خاص في صراع امتد لأكثر من ثلاثة عقود، استخدم كل طرف خلالها كل ما لديه من أوراق ضغط ومساومة، ليصل الطرفان إلى نتيجة مؤداها أن اللعبة لم تعد صفرية.
وبغض النظر عما إذا كانت هناك بنود غير معلومة في الاتفاق سواء ضمناً أو مكتوبة، فإن مجمل الاتفاق وهو التزام إيران بوقف تخصيب اليورانيوم وتحديد نسبته مقابل عدم فرض عقوبات جديدة عليها، ومنحها جملة حوافز اقتصادية خلال فترة انتقالية مدتها ستة أشهر، فإن ذلك لا يمس جوهر الخلافات الحقيقية بين إيران والدول الغربية عموماً والولايات المتحدة على وجه التحديد، حيث إن لإيران مطالب محددة تتمثل في تعهد الولايات المتحدة بعدم الإطاحة بالنظام الإيراني، والاعتراف بالحقوق النووية السلمية لإيران، وأن يكون لإيران دور إقليمي يتناسب وثقلها الجيواستراتيجي، بينما تريد الولايات المتحدة ضمان أمن الحلفاء، فضلاً عن أمن الطاقة، تلك المطالب المتبادلة كانت هي مضمون الرسائل المتبادلة وغير المعلنة بين الجانبين خلال السنوات العشر الماضية ولم ترتبط بالضرورة بمجيء الرئيس أوباما لسدة الحكم بيد أنها تسارعت وتيرتها في عهده، والتي لم تجد الصحف الأمريكية غضاضة من الإشارة إليها، ومن ثم فإن عدم الحديث عنها صراحة لا يعني أنها لم تكن محل نقاش مطول، بل أنها ستكون بنوداً رئيسية في الاتفاق الشامل بعد انقضاء الفترة الانتقالية، ومما يؤكد ذلك التناقض، تصريحات الطرفين من ناحية والتعتيم على بنود الاتفاق من ناحية أخرى.
وعلى صعيد التوقيت فإن الاتفاق قد جاء في توقيت تشابكت فيه خيوط اللعبة الإقليمية مع نظيرتها الدولية بشكل حتم «تصالح المصالح» حتى ولو بشكل مؤقت، فالرئيس الأمريكي باراك أوباما لديه برنامج انتخابي محدد وهو حل المسألة النووية الإيرانية سلمياً وإذا كانت تطورات تلك القضية قد تطلبت التلويح عدة مرات بالخيار العسكري فإن ذلك لا يعني الحياد عن برنامج انتخابي الفشل في تحقيقه لن يكون سوى فشل للديمقراطيين، فضلاً عن كون تلك السياسة تعد تنفيذاً لتقرير بيكر هاميلتون الشهير الذي صدر في الولاية الثانية لبوش الابن والذي أوصى بالحوار مع إيران، بالإضافة إلى أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ناهيك عن عودة الدور الروسي وبقوة تجاه القضايا الإقليمية «إيران، وسوريا، ومصر، أما إيران فلا يعدو ذلك الاتفاق سوى تقنين لسياساتها النووية، فقد أعلنت غير ذي مرة عن تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأن برامجها ذات طابع سلمي وهو حق مشروع تكفله الوكالة، إلا أن التطور الأهم برأيي هو أن إيران ترى أن اللحظة قد حانت لجني ثمار تحالفاتها الإقليمية التي جعلتها رقماً إقليمياً يصعب تجاوزه، وليس أدل على ذلك من حضور الأخضر الإبراهيمي المبعوث الأممي إلى سوريا مفاوضات جنيف النووية بما يعني أن المسألة النووية ليست سوى جانب واحد من تلك المفاوضات.
وتبقى المسألة الأهم، وهي التداعيات الإقليمية لذلك الاتفاق، وبخاصة على أمن دول مجلس التعاون، فعلى الرغم من ترحيب دول المجلس بالاتفاق، إلا أنه تبقى لديها مخاوف ليس على صعيد الملف النووي فحسب وإنما مستقبل الدور الإقليمي لإيران في ظل وجود قضايا خلافية عديدة بين الجانبين ليس أقلها التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية لدول المجلس، حيث تثار أفكار عديدة منها إمكانية عودة الولايات المتحدة لسياسة الرئيس السابق ريتشارد نيكسون «العمودين المتوازيين» ستكون إيران بالطبع أحدهما، في ظل انحسار أدوار الدول المحورية نتيجة تعثر تحولات العالم العربي، فضلاً عن إمكانية رعاية الولايات المتحدة في هيكل أمني إقليمي لن يقتصر على دول المنطقة بل ربما يشمل بعض دول الجوار، ومع أهمية مثل تلك الأفكار حيث أنها تعد بداية لترسيخ الأمن التعاوني بدلاً من الأمن الاستراتيجي الذي استنزف موارد دول المنطقة لعقود خلت، فإنه من متطلبات ذلك إصلاح الوحدات المكونة لهذا الأمن أولاً، وأعني بها حتمية حسم الجدل الذي يثار منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 وحتى الآن، إيران الثورة أم الدولة؟ ليكون الحسم لصالح الأخيرة، فدول مجلس التعاون لم ولن تعارض دور إقليمي لإيران، ولكن يتعين أن يؤسس على إجراءات بناء الثقة وأهمها عدم التدخل في شؤون الآخرين وحل النزاعات بالوسائل السلمية، والحد من التسلح التقليدي وغير التقليدي، بما يعني بناء علاقات جديدة أساسها توازن المصالح لا توازن القوى، وهي ليست شروطاً خليجية محضة وإنما هي أسس كافة التنظيمات الإقليمية الناجحة في العالم.
وانطلاقاً من أن الأزمة بين إيران والدول الغربية لم تنته وإنما اتخذت مسار مرحلة التهدئة، فإن دول مجلس التعاون مدعوة الآن وقبل أي وقت مضى لدراسة خياراتها الاستراتيجية تجاه تلك التطورات، والذي لم يكن ذلك الاتفاق منشأ لها بل كان كاشفاً لملامح معادلة إقليمية آخذة في التشكل تتشابك خيوطها مع واقع دولي جديد لن يكون أحادي القوة على الأقل في المدى المنظور، وفي تقديري أن دول مجلس التعاون بإمكانها استثمار تلك التحولات على أكثر من مستوى أولها: ضرورة البدء في إجراءات عملية لتنفيذ مقترح التحول نحو الاتحاد الخليجي باعتباره ضرورة استراتيجية تجاه أي توازنات إقليمية غير متوقعة، ولنا في التاريخ دروس مستفادة، حيث أملت التطورات الإقليمية في الماضي على دول المجلس خيارات ربما لم تكن راغبة فيها، وثانيها: إعادة النظر في الدور الخليجي تجاه مناطق العمق الاستراتيجي «العراق ، اليمن» وثالثها: تنويع الشراكة الاستراتيجية من خلال استنهاض دور الدول الآسيوية الفاعلة على الساحة الدولية، ومع أهمية تلك الخيارات فإنها تحتاج إلى سياسات موحدة بدلاً من السياسات الفردية، وربما تكون هناك حاجة لإعادة تعريف المصالح الاستراتيجية لدول مجلس التعاون.
ويعني ما سبق أمران، الأول: أنه بغض النظر عن النوايا وما سوف تؤول إليه التطورات الإقليمية خلال الأشهر الستة القادمة فإن مسألة المواجهة العسكرية بين إيران والدول الغربية تلاشت إلى حد كبير، والثاني: هو أن ذلك الاتفاق لم ينه المعادلة الصفرية للصراع وإنما كان تقنيناً لها، بمعنى آخر فإن كل طرف سوف يسعى لاستخدام ما لديه من أوراق ضاغطة وتوفيقية للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب، صحيح أنه تسود قناعة لدى الطرفين بأنه يمكن اقتسام المنافع، إلا أنه هناك أطراف إقليمية ودولية لا يمكن تجاهلها، ومن ثم يتعين أن تضع دول مجلس التعاون باعتبارها أنه لاصداقة دائمة ولاعداء دائم بل مصالح دائمة، بل الأهم أن المصالح دائماً تتصالح.
* باحث بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة