كتب – جعفر الديري:
جاءت رواية الكاتب البحريني عبد العزيز الموسوي «قلبي في رقبتك»، بعد رواية «القبار الأعرج»، بعد مشوار طويل في كتابة القصة القصيرة. ورغم الزخم الذي حظيت به الرواية، مازال الموسوي يجد نفسه مديناً للقاص فيه، وليس العكس. يعترف الموسوي أن روايته الصادرة عن «فراديس» جاءت في اللحظة التي تكون السماء غائمة فيها لكنها تمطر في وقت غير معلوم، ويجدها أشبه بغيمة ركامية، بها الكثير من الهواجس.
وعبر هذا اللقاء، يعلي الموسوي من شأن الكتابة، مشيراً إلى أنها المعول الوحيد القادر على الاستمرار في حفر النفق حتى بلوغ كوة الضوء، وأن الإنسان متى أراد أن يخلد نفسه فعليه أن يكون بين دفتي كتاب.
بعد رحلة طويلة، ورغم شروعه في القص منذ وقت مبكر ونشره أكثر من مجموعة، بالكاد تمكن عبدالعزيز الموسوي من كتابة روايته الثانية! إلى أي مدى تدين تجربتك الروائية للقصص القصيرة؟
- هذا سؤال مراوغ، يريد بطريقة ما أن يقول: إن كتابة الرواية هي درجة عالية لا ينالها قاص إلا بعد جهد، وهذا أمر غير صحيح أبداً، إن الروائي مدين للقاص فيه وليس العكس، بلا قصة أنت لا تستطيع كتابة رواية، لذا أعتقد أن القاص هو مبدع ليس بحاجة أن يكتب رواية ليحصل على صك يثبت جدارته في الكتابة، نعم الرواية سيدة المقام وتستحوذ على قلوب القراء، لكن ذلك لا يعطينا مبرر للتقليل من شأن قاص أو حتى مقارنته بمن يكتب في أجناس مختلفة من الأدب، بالنسبة لي أدين طبعاً للقصة ومتعصب لها أيضاً، وتجريبي في كتابة الرواية لا يعني بشكل من الأشكال أني أصعد درجة، بل أتثاءب وحسب، لأعود لكتابة القصة من جديد، القصة هي اللقطة في الفيلم، هي الفصل في الرواية، والمشهد على خشبة المسرح، القصة هي الأغنية والرقصة، هي الصورة واللوحة، لا يمكنك أن تبدع في أي مجال دون أن تكون لديك قصة تحاول إيصالها بالطريقة التي تفهمها وتتقنها.
بانتظار لحظة الهطول
في الغرب غالباً ما يقبل الناشر الأجنبي على نشر الكتب الناجحة، بينما في العالم العربي يترك الكاتب لمزاج الناشر، وفي البحرين الأمر أسوأ بكثير! وأنت اليوم في دائرة الضوء على الأقل محلياً! الحقيقة أني لا أفهم هذا الإصرار من جانبك على معايشة هذا القلق اليومي والنحت المتعب في عمارة الرواية؟
- لم أقلق كثيراً، ربما لأن الوضع كما تراه، وصل لحد أن تتجرد من خوفك وقلقك، إن الأمر أشبه بمن يحمل المظلة دائماً، فقط لأن السماء غائمة، ورغم أنها لا تمطر غالباً، إلا أن ذلك لا يعني أن السماء ستظل صامتة إلى الأبد، لهذه اللحظة نحمل المظلة، لهذه اللحظة نحن نكتب، لحظة الهطول، ارتواء الأرض، إن الأمر يستحق أن نترقب هذه اللحظة، وندفع كلفتها من قلوبنا وذاكرتنا، إن بقينا نندب هذا الحظ العاثر في طريقة تعاطي المؤسسات ذات العلاقة من دور نشر وثقافة فإننا لن نجني غير الحسرات. أمل واحد كفيل بخلق تلك الفتحة في الجدار الصلد. أمل واحد وهو كل ما نملك لـ نستمر في النحت.
لكن وضع الروائي والكاتب في البحرين سيء، بل هو أسوأ من دول الخليج كافة؟ هذه حقيقة يدركها الجميع جيداً، ستجد مهرجانات وفعاليات تعنى بالإنتاج المحلي وبإعلاء شأن المبدع المحلي، لكننا في البحرين لا نجد سوى الاهتمام بالمبدعين العرب على حساب البحرينيين، أنت مثلاً ألم تنشر مجمل إنتاجك من مالك الخاص؟
- لن أدخل في جدال مع من يعتقد أن وضع الكاتب البحريني سيء، إذا كان وضع المواطن كذلك بشكل عام، النقص موجود، التجاهل موجود، عدم الاهتمام موجود، الفوقية موجودة، لعبة المصالح موجودة، لكن أيضاً الطريق موارب ليس مسدوداً بالكامل. نعم كل الإصدارات التي طبعتها هي من جيبي الخاص، لم أجد منفذاً يحفظ كرامة الكاتب غير أن يدفع، ويراهن على موهبته، وعلى ثقة أن القارئ لم يعد يؤمن بالأصنام التي تختلقها دوائر الإعلام، الشاعر الأوحد، والقاص الأوحد، والروائي الأوحد، هناك من يستحق اقتناء كتابه،حتى لو لم يشير إليه أحد.
أين الكيان السردي؟
تصدر روايتك الجديدة، في ظل محاولات لا تتوقف سواء من قبل الكتاب من جيلك أو من الجيل الذي يليه، ما هو الفرق الذي تلمسه بينك وبين الروائيين الآخرين، عنيت أبناء جيلك والجيل السابق؟
- هذا أمر يحتاج ناقد، يتكفل بدراسة كل النتاجات البحرينية في هذا الصدد، ليعطينا حكماً نستطيع الركون إليه ومحاكاته، لكن بشكل عام، لن يكون هناك فارق إلا بما يتناسب وروح كل جيل، ثمّة سمات بسيطة وهي مكمن الاختلاف في عمل كل جيل، رغم أن كلمة جيل لا تعطي توصيفاً حقيقياً، لحجم النقص الفادح في الكتابة السردية، فإن جمعت الأولين والآخرين، الأحياء والأموات ستجد أن ذلك محض حفنة بالنسبة لبلد يزخر منذ زمن بالمبدعين، ويكفي الإشارة لعدم وجود كيان سردي لحد كتابة هذه الأسطر، وهو مثال يبين لك حجم الفاجعة التي لم نتجاوزها وما نزال نعيش فصولها بكل ألم وأمل في التغيير.
هناك من يرى أن الكتاب يموت، ليس في العالم العربي فحسب، بل في جميع أنحاء العالم، وكل ذلك بسبب انصراف الناس الى الثقافة البصرية! هل تعتبر الثقافة البصرية عدواً لدوداً؟
- أسمع ذلك منذ زمن: أن الكتاب يموت، في الحقيقة لم أر غير الإنسان يفعل ذلك وبإخلاص شديد، إنه يموت في كل زمن، في كل يوم، بل كل لحظة، الذي يبقى هو الكتاب يا صديقي، إذا أردت أن تخلد نفسك عليك أن تكون بين دفتي كتاب. الزمن يتغير هذا حق، التكنولوجيا تتقدم، هذا طبيعي جداً، ليس لدي هاجس الخوف من موت الورق، لأنها لن تكون سوى حيلة بصرية تحيل الكتب لشاشات إلكترونية، ولا أجد في ذلك عداوة بقدر ما أجد مجالاً أوسع للنشر والخروج من الأسقف الزجاجية، لعالم بلا حدود أو لجنة تصرح لك بما تكتب أو لا تنشر، العدو يكمن هنا، في أن تظل مقيد في مكان لا يسمح لك فيه بأن تكون كما تريد.
القلب المبصر
البعض يجهش في البكاء حتى يتمكن من كتابة سطر واحد، وآخرون يكتبون بسرعة، هل يمكن القول إن لغتك في روايتك الأخيرة منحوتة! بمعنى أنها جاءت بعد مكابدات شتى في الكتابة؟
- في رواية «قلبي في رقبتك» يجب الاعتراف أنها جاءت في تلك اللحظة التي تحدثنا عنا، لحظة أن تكون السماء غائمة لكنها تمطر في وقت غير معلوم، كنت أشبه بغيمة ركامية، بها الكثير من الهواجس، ثم أن الفكرة تباغتك وتطرق رأسك، ولا ترحمك قبل أن تفرغك تماماً، أمطرت بغزارة، لكن بسرعة أيضاً، ربما هذه السمة الجديدة في هذا العمل، أنها تتوغل بك إلا أنها لا تحرض عقلك بقدر ما تحرك قلبك، ليس في الأمر استعطاف، إنما الحفر جهة القلب كانت الغاية، فالذي يبصر ويعي هو القلب لا شيء آخر.
بصراحة، هل تجد في الحياة التي تعيشها مادة خصبة للكتابة، أم أنك تعتمد على مخزونك من القراءة؟ من أين تستقي ما تكتب؟ مما تسمع مثلاً؟
- القراءة، عامل مهم ليس لتدجين الأفكار وحسب، بل لإعطائك خبر و دراية في التكنيك والأساليب، هذا جانب لا يمكن بشكل من الأشكال إلغاءه، لكن ليس هو المحرك دائماً، فالحياة والمحيط والبيئة هي أصدق الموارد للكتابة بالنسبة لي، أن كل فرد في هذه الحياة مشروع كتابة ومشروع شخصية لها ميزاتها التي لا يمكن معرفتها بهذا الشكل الدقيق دون أن تصادفها أو تتعثر بها.
هل يشغلك المطلق ككاتب؟ أعني هل تفكر في الموت وما بعده؟ كيف يوائم عزيز بين مركزية النفس وبين قضية الإنسان؟
- أنا من المؤمنين أن معرفة الذات لا يمكن فهمها إلا من خلال ذوات الآخرين، عزيز جزء من هذه الكل وقضيته أيضاً تشبه قضايا آخرين، الآن حينما أرجع بعين فاحصة لإصداراتي أجد فهماً أكثر لنفسي، في الإصدار الأول كان ثيمة المرض، الإعاقة، الموت حاضرة بقوة، وأتلمس هذا الخوف الهائل في كل قصة، الخوف من الحياة اكثر منها من الموت، الموت ليس شيئاً مخيفاً المخيف هو المرض والإعاقة والموت في الحياة.
«المتكأ» أضاف لنا
لك نشاط بارز في الحقل الإلكتروني، وترأست المتكأ الثقافي منذ سنوات، هلا حدثتنا عن دوافعك لتحمل هذا العبء؟
- المتكأ –رغم كل شيء- مشروع مدهش، قام بدوافع نبيلة وبسواعد مخلصة، ليس عبئاً أبداً أن تساهم في إظهار المشهد الحقيقي للثقافة في بلدك، أن تبرز المواهب الحقيقية، أن تردم الفجوة بين الأجيال، أن تربت على المؤهلين ليكونوا صفاً جديداً في طابور المبدعين. كل ذلك يستحق العناء فعلاً، يستحق أن تقتات من مشروعك الخاص من أجل مشروع الكل، إن الأمر مجدي وأنا أتلمس ذلك من عدة مشاريع، أهمها تبني النتاج الإبداعي للمواهب والمبدعين، وكذلك المسابقات وتحديداً في مجال السرد، ستجد أن الأمر يستحق مع بروز كل موهبة بفضل إفساح المجال لها وحسب، ليس في ذلك منة ولا فضل، إن المتكأ أضاف لنا ومنحنا بقدر ما منحناه من اهتمام وجدّية في العمل.
سؤال أخير تود الإجابة عليه؟
- هل هناك جدوى من الكتابة؟ أعتقد أنها المعول الوحيد القادر على الاستمرار في حفر النفق حتى بلوغ كوة الضوء.