بقلم - د. أشرف محمد كشك:
على الرغم من كونه لقاءً سنوياً اعتيادياً ينظمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية؛ لتبادل وجهات النظر الإقليمية والدولية بشأن التحديات الأمنية في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، واستراتيجيات الدول الكبرى، فإن حوار المنامة التاسع -هذا العام- قد انعقد في ظل مستجدات إقليمية وأخرى عالمية، ألقت بظلالها على جلساته، وكانت قضايا أساسية لتساؤلات الحضور من الساسة والأكاديميين، أجاب المتحدثون عن القليل منها في لغة لم تخل من دبلوماسية معهودة، بينما كان التجاهل نصيب الجزء الأكبر من تلك التساؤلات، ويمكن إجمالها في ثلاث قضايا، أولها: هل منطقة الخليج العربي بصدد مراجعة هيكلية للأمن -الإقليمي- العالمي في ظل الاتفاق المؤقت بين إيران ومجموعة الـ5+1 والمحدد بستة أشهر، وربما يفضي إلى اتفاق شامل بين الجانبين لن يقتصر على القضية النووية؟ وثانيها: أين موقع دول مجلس التعاون ضمن الصيغ المتوقعة للأمن الإقليمي؟ وثالثها: ما هي الخيارات الاستراتيجية لدول مجلس التعاون للحفاظ على أمنها؟
لقد ارتكزت الرؤية الأمريكية الحاكمة لأمن منطقة الخليج العربي منذ الانسحاب البريطاني من منطقة الخليج العربي عام 1971 وحتى ما قبل مجيء الرئيس أوباما إلى سدة الحكم، على ركيزتين أساسيتين الأولى: ترسيخ التعاون مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية باعتبارها شريكاً استراتيجياً، وبخاصة على المستوى الدفاعي، فضلاً عن الجوانب التجارية والاستثمارية لتلك الشراكة، والثانية: الحيلولة دون وجود قوة إقليمية تمثل تهديداً للمصالح الجوهرية للولايات المتحدة والدول الغربية عموماً في تلك المنطقة. ولتحقيق ذلك الهدف انتهجت سياسات عديدة تارة، بما سمي بالاحتواء المزدوج، وتارة أخرى بالتدخل العسكري؛ لمواجهة ما اعتبرته تهديداً وشيكاً لمصالحها، وهو ما تمثل في حرب تحرير دولة الكويت من الغزو العراقي عام 1991 والغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وبدء صراع ممتد مع إيران في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979؛ باعتبارها قوة مناوئة للسياسات الأمريكية في المنطقة، بل إن الصراع الأمريكي-الإيراني قد اتخذ طابعاً صفرياً، حيث رأى كل طرف أنه المسؤول الأول، إن لم يكن الأوحد، عن أمن منطقة الخليج العربي، ولم يعن ذلك غياب دول مجلس التعاون عن تلك المعادلة، بل ظلت تحتفظ بعلاقات مع طرفي الصراع تجمع بين اعتبارات الجغرافيا ومتطلبات السياسة والأمن. وفي خضم هذا الصراع تمت صياغة مفردات عديدة من قبيل «الشيطان الأكبر، الدول المارقة» وغيرها من المصطلحات التي منحت ذلك الصراع بعداً شعبياً وإعلامياً، عمل على تغذية وتأجيج الصراع لثلاثة عقود من الزمن بشكل تم تصويره على أن هناك حاجة على الأقل لعقود ثلاثة أخرى، من أجل بناء علاقات طبيعية بين إيران والولايات المتحدة، خاصة والدول الغربية بصفة عامة، إلا أن الاتفاق المؤقت الذي تم توقيعه بين إيران ومجموعة الـ5+1 في جنيف في 23 نوفمبر الماضي، قد جاء بشكل مغاير لتلك السياسة، مما يعني أن منطقة الخليج العربي بالفعل في مرحلة الإعداد لمرحلة جديدة قد «تغير التركيبة الإقليمية والدولية وتحول منطقة الشرق الأوسط إلى وضع جديد». صحيح أن حديث وزير الدفاع الأمريكي أمام منتدى المنامة قد طمأن دول مجلس التعاون سواء بالإبقاء على 35 ألف جندي في منطقة الخليج وما حولها، وتخصيص 86 مليون دولار لتوسعة الأسطول الخامس الأمريكي، إضافةً إلى وجود 40 سفينة تابعة للبحرية الأمريكية تجوب المنطقة، فضلاً عن الطائرات المقاتلة الأمريكية التي لا يرصدها الرادار، إلا أن ذلك يبقى في نطاق مفهوم الأمن الاستراتيجي من ناحية، كما إن دول مجلس التعاون تقع ضمن محيط إقليمي أوسع، تتفاعل معه تأثراً وتأثيراً من ناحية أخرى، فمشكلة دول المجلس ليست في الاتفاق الإيراني الغربي في حد ذاته، وإنما في آفاق نجاحه، بما ينهي المشكلة النووية الإيرانية بشكل جذري، حيث لايزال الجانبان يقفان على طرفي نقيض، فإيران لن تقدم تنازلات جوهرية على صعيد ذلك الملف بسهولة، إلا إذا كان مقابل ذلك ثمناً باهظاً، من ناحية أخرى، فإن فشل المفاوضات لا يعني بالضرورة جهوزية الخيار العسكري الأمريكي على الطاولة، آخذاً في الاعتبار ما أشار إليه السيناتور جيم كين رئيس اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأدنى بمجلس الشيوخ الأمريكي في تبريره لتقاعس الولايات المتحدة عن توجيه ضربة عسكرية لنظام بشار الأسد، حيث حدد ذلك في أربعة عوامل هي عدم اليقين بشأن نجاح ذلك الخيار من عدمه؟ احتدام الجدل والخلاف داخل الإدارة الأمريكية وفي أوساط الرأي العام الأمريكي حول فائدة ذلك التدخل، ثم التساؤل حول الشركاء المحتملين في تلك العملية، وأخيراً ما هو البديل لنظام بشار الأسد؟ مؤكداً على أن تلك التساؤلات ليست مرتبطة بالأزمة السورية فحسب، وإنما ستكون بمثابة القواعد الحاكمة للتدخل الأمريكي في الأزمات الإقليمية مستقبلاً، بالرغم من تصويت ذلك النائب في الكونجرس لتأييد استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية ضد النظام السوري.
ومع التسليم بأن وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيجل قد حالفه الصواب في القول إن الدبلوماسية لا تعمل في فراغ، ولكن ماذا لو تمت تسوية الملف النووي الإيراني كجزء من صفقة إيرانية-غربية لا تتوافق بالضرورة مع المصالح الجوهرية لدول مجلس التعاون؟ بمعنى آخر ربما تكون الولايات المتحدة الأمريكية قررت انتزاع الملف النووي الإيراني من سياقه الإقليمي والتعامل معه دبلوماسياً، انطلاقاً من أمرين أولهما: أنه من الصعوبة بمكان أن تخوض الولايات المتحدة عملاً عسكرياً على الأقل خلال السنوات المتبقية من الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما، وثانيهما: رغبة الولايات المتحدة في إعادة بناء تحالفاتها الإقليمية مع استمرار أدوارها تجاه القضايا الإقليمية، ولكن وفق حسابات جديدة في ضوء التحولات التي يشهدها العالم العربي منذ عام 2011 والتي عززت أدوار بعض الدول الإقليمية، وأوجدت فاعلين جدداً، وهم الجماعات دون الدول.
وتأسيساً على ما سبق فإن التساؤل المنطقي: هو أين تقع دول مجلس التعاون في ظل تلك المعادلة الإقليمية المتوقعة؟ بمعنى آخر هل ستكون دول مجلس التعاون جزءاً من تصور غير معلن للولايات المتحدة بشأن هيكلٍ للأمن الإقليمي لن يستثني إيران؟ على غرار مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون في أوروبا عام 1975 -وهي الفكرة التي أثيرت في حوار المنامة، ومفادها أنه يتعين على الولايات المتحدة أن تدعم انعقاد اجتماعات دورية بين مجلس التعاون والعراق وإيران- أو دعم الولايات المتحدة لفكرة لطالما أثيرت وهي إقامة ناتو شرق أوسطي، وهو أن تقود الولايات المتحدة مجموعة من الدول ضمن ترتيبات الأمن الإقليمي، لن يكون محدوداً بدول مجلس التعاون أو دول جوارها، إنما قد يمتد لما هو أبعد من ذلك، وبغض النظر عن الصيغة التي يمكن طرحها للأمن الإقليمي الخليجي، فإن شروط تحقيق ذلك الأمن لم تتوفر في منطقة الخليج بعد، وأهمها أن التحول الذي شهدته التجربة الأوروبية نحو السلام لم يكن سوى بسبب توازن القوى داخل المجموعة الأوروبية، من ناحية ثانية فإنه من الشروط الأساسية لتحقيق الأمن الإقليمي إصلاح الوحدات المكونة لهذا الأمن، ففي الوقت الذي تمكنت فيه دول مجلس التعاون من تحقيق معدلات تنموية مرتفعة، بما يضمن حياة كريمة لمواطنيها، فضلاً عن الدور الذي اضطلع به مجلس التعاون كعامل للاستقرار والأمن في منطقة الشرق الأوسط، فإن الأطراف الإقليمية الأخرى تواجه تحديات عديدة؛ فخروج العراق من معادلة التوازن الإقليمي عام 2003 قد أدى لتدمير معادلة الأمن الإقليمي التقليدية، وليس أدل على ذلك من تأكيد وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري بالقول «إن العراق لا يمتلك أي طائرة مقاتلة، بل إن مملكة البحرين لديها قوات جوية أقوى من العراق»، فضلاً عن تأثير التطورات في سوريا على حالة الاحتقان الطائفي في العراق، من ناحية أخرى فإن السياسات الإيرانية التدخلية في شؤون دول مجلس التعاون عموماً، ومملكة البحرين على نحو خاص، والساعية لممارسة دور الهيمنة على منطقة الخليج العربي ومحاولة التغلغل في دول الجوار الاستراتيجي لدول مجلس التعاون «العراق واليمن» يؤكد الشكوك الخليجية تجاه تلك السياسات، بما يعني أنه يتعين أن تكون إيران «عاملاً للاستقرار وليست عاملاً للارتياب والشك»، بمعنى آخر «هناك ضرورة للاتساق بين الأقوال والأفعال الإيرانية»، من ناحية ثالثة، وعلى الرغم من الأهمية الجيو استراتيجية لليمن باعتباره الامتداد الحيوي لأمن دول مجلس التعاون، فإن التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي يواجهها، ربما تحول دون إسهامه ضمن الترتيبات الأمنية الإقليمية، حيث أشار وزير الخارجية اليمني أبو بكر القربي إلى أن هناك حوالي 18 مليون فرد في اليمن بحاجة إلى المساعدة الإنسانية.
ويثير ما سبق تساؤلاً مؤداه: ما هي الخيارات الاستراتيجية المتاحة لدول مجلس التعاون؛ لمواجهة ذلك المشهد الإقليمي-العالمي الآخذ في التشكل؟
وقبيل تناول تلك الخيارات، ثمة أمران تجدر الإشارة إليهما، الأول: أكدت التجارب الدولية كافة أن التحالفات الدولية خيار لا يدوم؛ إذ يرتبط بشكل وثيق بالتوازنات الإقليمية والدولية، والثاني: أن السياسات الإقليمية لإيران لم تكن سوى نتيجة للخلل في توازن القوى مع دول مجلس التعاون، بما لم يحقق مفهوم الردع الحقيقي.
ومن ثم يتعين أن تنتهج دول المجلس مسارات ثلاثة متوازية:
أولها: بناء القدرات الذاتية ولكن وفق نظرة شاملة، لا تقتصر على البعد العسكري، وإعادة التركيز على تهديدات الأمن الوطني ومنها: «الخلل في التركيبة السكانية، البطالة، العنف والإرهاب»، بما يؤدي إلى الحفاظ على النسيج الوطني الواحد.
وثانيها: إيجاد صيغة توافقية لمسألة الاتحاد الخليجي يكون من شأنها الحفاظ على مجلس التعاون ككيان إقليمي، والحفاظ على سيادة الدول من ناحية أخرى، وليس بالضرورة تطبيق نموذج بعينه، وإنما يمكن تعديله وفق خصوصية دول مجلس التعاون، ويمكن البدء ببعض القضايا المحورية مثل الدفاع باعتباره ضرورة استراتيجية ملحة، بل إن الصيغ المشتركة هي تطوير لكيان المجلس ذاته، وفقاً لما نصت عليه ديباجة الميثاق المنشأ للمجلس والمادة الرابعة منه، ولعل ما تردد بشأن اعتماد القمة الخليجية في الكويت للقيادة العسكرية الموحدة لدول المجلس يعد تطوراً مهماً في هذا الشأن، حيث إنه إذا كان إنشاء مجلس التعاون عام 1981 قد تم نتيجة لتحد إقليمي آنذاك متمثلاً في الثورة الإيرانية، فإن دول المجلس تواجه دوراً إيرانياً جديداً ولكن بقبول دولي.
وثالثها: ضرورة إبلاغ دول مجلس التعاون الولايات المتحدة بكل وضوح بمخاوفها بشأن التغيرات المحتملة للسياسة الأمريكية تجاه منطقة الخليج العربي، مع العمل على تفعيل العلاقات الخليجية الآسيوية، وبخاصة الدول المحورية منها؛ وذلك لموازنة الأدوار الغربية في منطقة الخليج العربي.
وخلاصة القول إنه في ظل وضوح أجندات الأطراف الإقليمية والدولية التي شاركت في حوار المنامة التاسع، فقد تباينت الرؤى الخليجية، في وقت هي في حاجة ماسة للاتفاق، أكثر من أي وقت مضى.

باحث بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة