لم يتغن القدماء بأوطانهم, لا لأنهم لا يحبونها, بل لأنهم يجدونها فوق الكلام, وفوق التصوير, وفوق الحب.
إن الأوطان أكثر اتساع من الفكر ومن القلب ومن الوجدان. اللغة تقف حائرة على أبواب الوطن, لأنها مهما كانت فصيحة وبليغة وعميقة, لا تبلغ أن تتحدث عن الوطن.
إن الوطن هو وجود الإنسان المطلق, وهو البرهان الأول على وجود الذات الإلهية, لأن الله عز وجل ربط الإنسان بالكون وجعل الكون الدليل الأوضح على قدرة الله عز وجل والوطن جزءاً من الكون, ولذا فالرباط الكوني للإنسان هو انتماؤه للوطن.
جلت قدرة الله إذ اشتق الإنسان من الوطن, فلا حدود لانتمائه ولا حدود لولائه ولا حدود لحبه سبحان الله العظيم وهبنا الحياة ووهبنا الخلود ووهبنا هذا الذي اسمه الوطن حيث ارتباطنا بكل ما هو موجود في الكون وارتباطنا بعظمة الخالق. في الوطن تتجلى عظمة الله خلقاً وتجميلاً واستمراراً وتنوعاً جلت قدرته سبحانه لقد جعل الوطن أكبر من لغتنا وأكبر من فكرنا وأكبر من تخيلنا.
إنه الوجود الرباني متجلياً في عظمة هذا الكون, والكون هو بوابة الإيمان المطلق بالله والوطن هو الجزء المتجلي لنا من الكون. وحينما تتجلى عظمة الخالق للإنسان ويلتفت إلى ما حوله إلى وطنه لابد أن تنطلق من وجدانه لمحة دالة على هذا الانبهار لكنها لا تملأ كل أودية انبهاره, بل هي ومضة تجيء من هنا وهناك تحمل من حب الإنسان لوطنه بقدر ما تحمل تلك الشرارة المتطايرة من قدرة النار الهائلة.
وكلما كانت اللمحة التي تتجلى للإنسان بسيطة كلما كانت دلالتها على عظمة معناها المشتقة من عظمة الله الواحد الأحد من هذا الكون الذي نجعل منه أوطاناً لنا. قال الشاعر:
1.ولي وطن آليت ألا أبيعه
والبيع هو تخلي عن شيء مقابل ثمن لكن, ما هو الثمن؟ لا أحد في مقدرته أن يمنح إنساناً ثمناً لموطنه, هذه لمسة من قدرة الله تجلت في الإنسان فالوطن يحيطه وهو قبله وهو بعده وهو فيه وهو جزء مما يتذكر وهو جزء مما ينسى, يالعظمة الله كيف ربط الإنسان بهذا الشيء العظيم الذي اسمه الوطن ولو اشتغل الإنسان في أي مشاغل الحياة والكون والوجود والذهن والفكر والإبداع, يتجلى له في نهاية الأمر عظمة أكبر من هذا كله هي عظمة الخالق من خلال ما يراه في عظمة هذا الوطن.
وهو كلما ظن أنه نسي أو تناسى أو انشغل وجد نفسه في هذه الومضة إلي تبدد له كل النسيان وكل الانشغال, إنه الوطن ارتباط لا تحيطه اللغة ولا يحمله البيان, حتى أن شاعراً كان مبهوراً بمعنى الوطن, فذكر إن الجنة وهي وعد المؤمنين الصادقين, وهي مكافأة الله لعباده المخلصين. لو أنه أي الشاعر يفترض ويتأمل أن يكون في ذلك الفردوس, فإنه لن ينسى ما يتجلى له من ارتباطه بهذا الوطن.
وطني لو شغلت في الخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وبكل بساطة تنطلق تلك الجملة التي تحمل معنى مطلقاً (لا شيء يعدل الوطن).
هذا الوطن معنى يحمل كل التصورات الرائعة في ذهن الإنسان وهو شغل الإنسان الشاغل في وجوده وداخل هذا الوجود لا يملك الإنسان أن يتململ, هل يملك الإنسان أن ينأى بنفسه وذهنه وعقله عن هذا الشيء العظيم الذي هو الوطن.
هل يستطيع الإنسان أن يكون في لا مكان؟ استغفر الله حينها يستطيع أن يتنكر لمعنى الوطن ولقد بسط ديننا الحنيف هذه العلاقة والرابطة بين الإنسان ووطنه فجعل (حب الوطن من الإيمان).
سريان عبدالحميد المحادين