كتب - أمين صالح:المخرج الفرنسي جان لوك جودار، من خلال فيلمه «الفافيل» Alphaville يلقي نظرة على المستقبل، من وجهة نظر الماضي، في هذا الفيلم المستوحى من قصيدة لبول إيلوار. إنه يستخدم باريس المعاصرة، بلا خداع بصري ولا تصميم مناظر مصطنعة، للإيحاء بمدينة المستقبل.. ألفافيل.هذه المدينة واقعة في قبضة الفاشية، تديرها أجهزة الكمبيوتر.. وهي كائنة في كوكب آخر، حيث لا تختبر المشاعر الإنسانية والعواطف البشرية، والحرية الفردية محظورة. نظام شمولي مستبد، وقمع سياسي، في ظله لا يعود بوسع البشر التعبير عن ذواتهم، ولا يجدون ذرة من الحرية إلا عبر الدخول في فضاء لا متناهٍ من الذاكرة والمخيلة.الفيلم، جوهرياً، عن صراع فرد واحد ضد مجتمع يتحرك تحت إدارة كمبيوتر مستبد، يجرد الناس من الصفات البشرية ومن الشخصية الإنسانية. العميل السري ليمي كوشن (إيدي كونستانتين)، بطل سلسلة روايات التحري الفرنسية، يكلف بمهمة جمع معلومات عن ألفافيل، والبحث عن عميل مفقود، ثم اغتيال العالم الفاشي الذي خلق ألفافيل وصمم معمار المدينة. منتحلاً صفة صحافي، يصل إلى ألفافيل، بذريعة عمل تحقيق صحافي. بمجرد وصوله المدينة، يتعرف على ناتاشا (أنا كارينا)، ابنة العالم، المكلفة بمرافقته ومراقبته في الوقت نفسه. هي نتاج هذا المستقبل، لا تعرف مثل هذا الخوف، فقد علمها الكمبيوتر «ألفا 60» بأن الموت والحياة يوجدان في المنطقة نفسها.هو شخص مستقل، عفوي، وقياساً إلى سكان المدينة الخنوعين والممتثلين، هو جامح، بدائي، بسلوك مبهم ولا يسبر غوره. إنه يحب النساء والمال أكثر من أي شيء آخر، ويخشى الموت. وهو لا يفهم المستقبل لأنه لايزال يقطن في الماضي. بينما ألفا 60 يمثل الحضور المهيمن على نحو مبهم، والذي لا يحمل وجهاً، للمؤسسة التكنولوجية العملاقة.النظام يفرض التفكير الأحادي البعد، والذي يهدف إلى منع الناس من التفكير نقدياً، من طرح أي سؤال، أو مساءلة الأوضاع والشروط التي تحدد وجودهم وتؤطرها. عليهم فقط أن يؤمنوا على نحو مطلق بالقائم والسائد: بالمؤسسات السياسية، والأيديولوجيات المسيطرة. إنهم يفتقرون إلى الحرية في التعبير بشكل صريح عن عواطفهم وأفكارهم. سكان المدينة، ذوو السلوك الآلي، يتلقون، بخنوع ومن غير نقاش، الوصايا التي تكرس خضوعهم للنظام.النظام يتحكم في اللغة، في الكلمات والمعاني، في المفاهيم، وذلك من خلال الأيديولوجيا. في محاولة للتحكم في حدود التفكير، يلجأ النظام إلى التلاعب باللغة، وتوفير معجم لغوي محدود، قاصر، أحادي البعد، وخاضع للتلاعب. النظام هو الذي يقرر الكلمات التي يمكن استخدامها للتعبير وتلك التي ينبغي استبعادها وحذفها من القاموس. اللغة المكرسة، المعترف بها رسمياً، هي التي ينبغي استخدامها وتداولها.. وهذا يعني بالضرورة الامتثال لطرائق التفكير المكرسة والمسموح بها.ولأن الشعر يوسع فهم المرء ويمدد إدراكه لما هو ممكن، ويزوده بالقدرة على معارضة أشكال الواقع المكرسة، وما تمارسه من هيمنة وإقصاء، ولأن الشعر -والفن عموماً- قادر أن يرفع الوعي إلى مستوى أعلى من الإدراك، فإن النظام يقوم على الفور بنفي أولئك الذين يكتبون الشعر. في ألفافيل «لم يعش أحد في الماضي، ولا أحد سوف يعيش في المستقبل. الحاضر هو شكل كل حياة».. هكذا يؤكد النظام الحاكم. الماضي هنا لا يتم تجاهله، بل ثمة توكيد على أنه لا يوجد. هذا المفهوم، إلى جانب تدمير البعد المستقبلي، يهدف بالدرجة الأولى إلى منع سكان المدينة من التفكير في الاحتمالات المستقبلية لمجتمعهم، وبالتالي تحول دون ممارستهم نقد الوضع الراهن.ولأن النظام الحاكم واع لحقيقة أن الكاميرا أداة قادرة على تسجيل وتوثيق الماضي، وأنها تمثل الذاكرة التاريخية بامتياز، فإنها تمنع مواطني ألفافيل من استخدامها.النظام الحاكم يصف الزمن باعتباره «دائرة تدور على نحو لا نهائي»، أنه حاضر لا نهائي.. هنا أيضاً توكيد على الرؤية السكونية للواقع، وإبعاد الفرد عن دراسة، أو مجرد التفكير في، الاحتمالات البديلة، لأن ذلك يشكل تهديداً للأشكال الراسخة للسلطة. في المجتمع التكنولوجي المعاصر سنجد نقضاً أو نفياً للتاريخ. فيما يتنقل كوشن عبر المدينة كلها، ويجتاز المناطق القاحلة، ملتقطاً الصور، ومتحرياً عن عمل المؤسسة التكنولوجية، يتعين عليه أن يخفي مشاعره وأفكاره «الهدامة».. إلى أن يتمكن من العثور على العميل وهو في حالة صحية سيئة. الجانب الشرير حقاً من النظام يكشف نفسه في الأحوال التي يتعامل فيها مع أولئك الذين لا يستطيعون الامتثال كلياً إلى الأشكال المقبولة، المسلم بها، من السلطة والمعرفة. النظام يفرض على المواطنين التحرش بهؤلاء الخارجين أو المنشقين، الذين لا ينسجمون، ومضايقتهم، ومحاولة دفعهم إلى الانتحار، وهو المنهج الذي يختاره النظام للتخلص من خصومه غير المرغوب فيهم. عندما تخفق هذه المحاولة، يقوم النظام بتصفية المنشقين وإعدامهم رمياً بالرصاص، أو الغرق، أو صعقهم بالكهرباء على نحو مفاجئ بينما هم جالسون في صالة السينما مستغرقين في مشاهدة فيلم ترفيهي.عندئذ يركز كوشن جهوده على إسقاط ألفافيل، فيثير شكوك المحيطين به ويؤجج مواقفهم العدائية تجاهه. من جهة أخرى، هو يقع في غرام ناتاشا، التي يراها مختلفة عن الآخرين، وتحمل بذور العاطفة والمشاعر بداخلها، فيسعى إلى تحريرها من هذا المناخ القمعي. إن اكتشاف ناتاشا للحب يكشف لها عالماً من العواطف واللاعقلانية التي لم تعرف أبداً أنه موجود، فقد كانت طوال الوقت سجينة أيديولوجيا قمعية، وحان الوقت لأن تتحرر. هو يقع في أسر «ألفا 60»، لكنه يتمكن أخيراً من تدمير الآلة بإرباكها وتشويشها من خلال طرح لغز متناقض ظاهرياً، وينجح في اختراق مقر العالم واغتياله، ومن ثم الهروب والعودة إلى الوطن مع ناتاشا بينما المدينة وسكانها ينحدرون نحو الانحلال والانهيار ثم النسيان.طوال الفيلم، يدخل جودار، على نحو متكرر، لقطات لصور ورموز بصرية بين ثنايا السرد من أجل توكيد البنى الأساسية للأيديولوجيا التي تحدد وجود المدينة (الفافيل)، المعادية لحرية الإنسان وإرادته ورغباته، والتي تخنق كل تجليات التفكير الحر وحرية الإرادة وحق تقرير المصير، وتدمر أي إمكانية لحق المرء في الاختيار.
970x90
970x90