كتب ـ علي الشرقاوي:
في سني الطفولة الأولى كانت السماء أكثر صفاءً وزرقة، سماء تتأبط خاصرة البحر، وكان الأخير يحيق بنا من كل الجوانب، نراه أينما التفتنا، مدارسنا كانت قريبة من البحر مدرسة القضيبية ومدرسة بيت النافع.
بدلاً من الذهاب إلى البيت مباشرة، نيمم شطر البحر، ومكانه الآن مبنى الحكومة، وبعض الأحيان يوشوشها البحر كما هي حال مدرسة رأس رمان، كنا هناك نسمع أنفاس الأمواج وهي تتلاطم ونحن بمقاعد الدرس.
المنامة بالنسبة لنا في تلك الفترة، ليست إلا مجموعة فرجان متداخلة، فأنت لا تعرف أنك دخلت إلى فريج آخر إلا من خلال الطريق، بعد ذلك سمي بالشارع، فلا وجود لحدود حقيقية.
بين فريج الفاضل ورأس رمان، أو بين العوضية والذواودة، أو بين الحورة والقضيبية، أو بين المخارقة وفريج الحمام، كانت المناطق والفرجان متداخلة لدرجة لا تعرف هل أنت في فريج المشبر أو الحمام أو بو صرة أو الزراريع.
ولإلقاء الضوء بصورة أكثر توثيقاً على حال المنامة، نعود لقراءة ما كتب عن المدينة في التاريخ، سبب التسمية، موقعها بالنسبة لعواصم خليجية أخرى، نعود للتعرف عليها عن كثب.
التعرف على روح المنامة هو الاقتراب من التعرف على أنفسنا كجماعة تعيش في مكان من العالم، وخير دليل لنا هو ما كتبه الباحث علي أكبر بوشهري، أحد أهم الباحثين الجادين في تاريخ البحرين القديم والحديث.
اسم المنامة يظهر للوجود
يقول الباحث البحريني الكبير علي أكبر بوشهري في أحد أعداد جريدة الوسط البحرينية تحت عنوان «بلاد الجديد» مولد مدينة المنامة، إن مولد مدينة المنامة تاريخياً يختلف عليه الباحثون، ولمعرفة متى وكيف ظهر اسم المنامة للوجود، علينا البحث والدراسة والتحقق من تاريخ مدينة بلاد القديم، لارتباط المنطقتين بعضهما ببعض، ولولا ظهور بلاد جديدة قبل التسمية، لما ظهرت هذه التسمية أساساً.
يورد التاريخ أن ذكر بلاد القديم باسمها الأصلي قبل أن يتغير كان عام 1316م، عندما صكت عملة نحاسية باسم أحد الملوك، وكتب عليها اسم بلاد القديم قبل التغيير، وهذا يدعونا إلى الجزم بعدم مولد مدينة المنامة في هذا التاريخ.
أما اسم مدينة المنامة فذكر أول مرة عام 1348م، من قبل الملك فخر الدين توران شاه ابن قطب الدين توران شاه ابن عزالدين كردان شاه، الملك الثالث في الأسرة الثانية لملوك هرمز المعروفة باسم أسرة توران شاه، في كتاب «شاهنامة» أو قصة الملوك، وظهر كمؤلف عام 1348م.
وحكم فخرالدين توران شاه بعد وفاة والده (1348 - 1378)، واحتل هذا الملك جزر البحرين، ليعد ثاني احتلال للبحرين من قبل الأسرة، حيث احتلت من قبل ابني عمه عجم شاه «شادي وشنبة».
ويضيف بو شهري أنه في الفترة ما بين 1346م وحتى 1348م، حكم كل من شادي وشنبة البحرين حكما مشتركاً لفترة قصيرة، وفي العام التالي سجن شادي أخاه وكاد يقتله لولا تدخل والدتهما، فنفي شنبه من البحرين ليرحل لموطن أجداده، أي ملوك هرمز، إلى قرية فال الواقعة جنوب شرق إيران.
وفي عام 1348 توفي شادي وعين ابنه الطفل «حام» حاكماً على البحرين، قبل أن يقتل من قبل عمه الذي جاء البحرين ليتسلم الحكم.
لم يعمر شنبة «العم المنفي» بالحكم طويلاً، حيث قتله أحد ضباط الهرمزي «مير عجب» الذي كان يطمع في حكم البحرين، وتوقع أن يلقى عمله قبولاً من الملك ويولى الحكم، إلا أن الملك كان يريد الانتقام منه لقتله أحد أفراد أسرته.
أما بالنسبة إلى مير عجب، فهرب بجيشه، بعد وصول الملك فخرالدين إلى البحرين، حيث نزح من مدينة المنامة وهي أهم مدينة وميناء في الجزيرة، واحتمى في مدينة أخرى تقع على الجهة الثانية من الساحل وهي بلاد القديم.
وذكر اسم هذه المدينة بأنها مدينة «زير»، وهنا أخطأ المترجم البرتغالي للكتاب الإيراني، حيث إن كلمة «زير» لم تكن اسم المدينة الثانية «بلاد القديم»، بل وصفاً لموقعها، حيث إن كلمة «زير» تعني في اللغة الإيرانية «أسفل أو تحت»، وهي موقع المدينة وليس اسمها، ومما سبق نصل إلى معرفة أن اسم بلاد القديم لم يتغير إلا بعد عام 1316م، وأن مدينة المنامة كانت موجودة قبل عام 1348م.
ويقول الباحث علي بو شهري «هنا نصل إلى هذا التساؤل متى كان مولد كلمة منامة؟ أولاً ومن خلال هذا المرجع، نلاحظ أن ما ذكر من قبل المؤرخين أن اسم منامة محرف من منعمة، فهذا ليس صحيحاً، أما بداية منامة فكان بعد 1316م، وقبل 1348م.
والتاريخ مادة حية تحتاج لدراسة وتحقق، عما جرى في البحرين في تلك الفترة القصيرة التي لا تتجاوز ثلاثين عاماً، ففي عام 1320م وبعد أن أخذ قطب الدين توران شاه وفخرالدين شاه جزيرة قيس وتركا فيها جيشاً كبيراً، جاء الأخير وأخذ جزر البحرين وهو في طريقه إلى هرمز إضافة إلى المنطقة الشرقية «الإحساء»، وهذه الحادثة الوحيدة التي تكتسب أهمية تدعو إلى ميلاد ونشأة مدينة المنامة.
كان الجيش الهرمزي كبيراً، لدرجة مكنت فخر الدين توران شاه من احتلال البحرين والإحساء معاً، وكانت مدينة بلاد القديم أكبر وأهم مدن البحرين وعاصمتها.
الطريف في الأمر أن ميناء هذه المدينة يقع في خليج توبلي، ومن المحتمل أن الجيش الهرمزي نزل الساحل الشمالي للجزيرة، حيث العمق البحري المساعد لسفنهم.
نزل الجيش الساحل مقابل فريق الفاضل الحالي، وتعد هذه المنطقة أقدم مناطق المنامة، وعسكر الجيش هناك وضرب الخيام، واعتبرها معسكراً ونقطة انطلاق لاحتلال مدن البحرين وقراها، وكانت العاصمة بلاد القديم أول المناطق المحتلة، ومنها أطلق البحرينيون اسم منامة على معسكر الهرمزي، وتم تغيير اسم العاصمة السابقة إلى بلاد القديم.
كانت مدينة المنامة القديمة عند مولدها وحتى عام 1600م، تقع على الساحل الشمالي الشرقي للمنامة الحديثة وحدودها في ذلك الوقت كانت بين مسجد الفاضل شرقاً وحتى بناية يتيم سنتر غرباً، والجنوبية تقع بين نهاية شارع الشيخ عبدالله (قرب مأتم الصفافير) شرقاً ومسجد الخواجة غرباً، حيث توجد في المنطقة أقدم المساجد والفرقان والأسواق، ومن أسواقها تتألف وحدات للبيع بالمفرق، ولكل بضاعة سوقها الخاص».
أسواق المنامة
سوق الطواويش وهي المركز المالي للبحرين وبها كبار تجار اللؤلؤ ومستوردي البضائع وصرافي العملة، وسوق البز وتختص ببيع الأقمشة،
وسوق العجم وتباع فيه كل أنواع البهارات والمكسرات وأكثـر البضائع من منتوجات إيران، وسوق الغنم والحمير والماء، وسوق الودج وتباع فيه الشحومات ومواد طلاء السفن «الودج والعيل»، وسوق الحدادة وسوق الصفافير وسوق التناكة وينتشر في السوق أصحاب المهن الخاصة كمصلحي الساعات والصاغة والحلاقين، وسوق الخواجة «الحواويج» يقوم أصحاب تلك المحلات مقام الطبيب المعالج للأمراض بالأعشاب والأدوية الشعبية.
وكانت هناك عدة قرى تتبع المنامة بعد أن تحولت إلى محافظة وهذه القرى هي الجفير والسنابس وكرباباد والبرهامة والزنج والماحوز والغريفة والقضيبية والحورة ورأس رمان والنعيم والقفول وبلاد القديم والسقية والسلمانية والعدلية وأم الحصم والنبيه صالح.
ميناء السفن
اتفق مع الباحث بو شهري في أن كلمة المنعمة، ليس لها أي معنى حقيقي، وتفسيره بالنعمة بعيداً عن الصواب، وأرى أن المنامة جاءت عبر إطلاق بحارة السفن اللاجئين إليها للراحة - كبندر أو مرسى أو مكان للنوم ـ يرتاحون فيه يوماً أو أكثر ثم يواصلون رحلتهم.
فموقع المنامة البعيد عن حركة العواصف، جعل منها ملجأ جيداً للنوم، ولذلك اعتبرت مكاناً هادئاً للنوم فسميت المنامة على هذا الأساس، لا أكثر ولا أقل.
وخلال متابعة ما كتب عن تاريخ المنامة في الإنترنت نلتقي بما أوردته الباحثة فوكارو، وتعتقد أن اسم المنطقة يرتدي دلالة معينة بالنظر إلى وقوعها على الساحل، فاشتقت المنامة من نام، أو المكان الذي يشكل مكاناً للراحة والاستكانة، ويوفر ملجأً دون حدود أو قيود يتواجد فيه سكان مقيمون بشكل دائم، وآخرون ممن يقدمون للحضور المؤقت.
وعلى ذلك قامت فلسفة منامة القرن التاسع عشر حين أصبحت سوقاً تجارياً متدفقاً، ولم يعد المكان معلماً جغرافياً واقتصادياً وسياسياً حاجزاً، بل بات حداً مرناً جاذباً، وكانت العالمية هي المعلم الأساس له كمجتمع مدني، والروح التجارية هي إيديولوجية رجال الأعمال الأحرار والجريئين، واحتضنت المدينة تشكيلة واسعة من الفرص التجارية تقدمها للوافدون الجدد عبر اقتصاد الميناء القائم.
عاصمة اقتصادية
منذ أن بايع كل أهل البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة تحولت المحرق إلى عاصمة سياسية، وموطن الحكم، وأصبحت المنامة عاصمة اقتصادية معروفة، فكل من مقر المندوبين البريطانيين والجمارك وتجارة الترانزيت ومقرات الشركات الكبرى كريبال وكريمكنزي وغيرها كانت في المنامة، وأرى شخصياً أن مدينة أو قرية المنامة كانت على مر التاريخ هي العاصمة الاقتصادية، والمحرق لم تكن عاصمة إلا بعد أن سكنها الشيخ عيسى بن علي.
وشخصياً اعتبر، معتمداً على جملة البحرين ميناء العالم، أن المنامة هي العاصمة الأساسية للبحرين في كل العصور منذ أيام دلمون إلى الآن.
مهجر بلا قيود
مصطفى بن حموش في تتبعه لتاريخ المنامة، يرى أن أول إشارة لها وردت في رسالة صادرة عن السلطان العثماني إلى ممثله المحلي بالمنطقة تتحدث عن حصن المنامة التي كانت تحت حكم البرتغاليين، والذين قد يكونون بنوا أو أعادوا بناء قلعة البحرين سنة 1521م. والمقصود بالقلعة هو قلعة البحرين التي سبقت بتكوينها الحالي بناء قلعة الديوان.
وعلى مدى قرنين من الزمان تبلور في المنامة كيان البحرين الجديد، فما عادت البحرين عاصمة لدولة بشرق الجزيرة أو جزءاً منها، فقد تطابق الاسم والمدلول السياسي والحيز الجغرافي، كان ذلك يحدث للمرة الأولى منذ بروز اسم البحرين في التاريخ.
هذا التغير السياسي كان يتناغم مع تطور شامل يغمر مناطق أخرى بالخليج، ويأخذ منحى اقتصادياً جديداً وهو بروز المدن الموانئ على الساحل الشرقي للخليج.
في نفس الوقت ترى الباحثة ميليندا فوكارو في تتبعها لتاريخ نشوء المدن الموانئ، أنه وحتى القرن الثامن عشر لا توجد معلومات كثيرة عن مستوطنات بالساحل العربي، حيث إن المنطقة لم تكن نهضت حتى يكون لها مكانة تجارية وسياسية.
ولكن وبالنظر إلى وقوع الساحل العربي وسط ثلاث قوى سياسية أساساً تتحكم في البر المحيط الدولة العثمانية إلى الشمال وفارس إلى الشرق والجزيرة العربية إلى الغرب، وترافق ذلك مع نشاط وسط القبائل العربية اتجهت للساحل في الكويت والبحرين وساحل عُمان الشمالي أو ما يعرف بالإمارات حالياً، متوازياً مع وجود أجنبي لم يكن ليرغب في رؤية القوى البرية العظمى تمد وجودها وحضورها إلى سواحل الخليج. ولم يكن الساحل الإيراني بدوره بعيداً عن فورة نشاط القبائل العربية، التي كانت استقرت فيه ونشطت وأثبتت حضوراً وفعالية تمتد منذ القدوم الأوروبي الأول المتمثل في البرتغاليين.
المنامة تاريخ النشأة
تورد فوكارو أن تاريخ المنامة يسبق تاريخ تشكل الخليج في القرن الثامن عشر، كانت ميناءً قبل أن تصبح مدينة وتعتقد أن تاريخها يرتبط إلى حد كبير بقلعة البحرين.
ولربما كانت آثار الاستقرار الواقعة بين المنامة الحالية والقلعة القائمة تشير إلى ازدهار الميناء قبل وصول البرتغاليين، وإن كانت تلك الآثار تشير ربما إلى ازدهار أقدم بكثير من فترة العصور الوسطى التي سبقت البرتغاليين على وجه التحديد.
وتظهر متابعة الخرائط رسوماً لإنشاءات متجمعة ربما أشارت إلى المدينة، ولكن وبقدر ما يستقى من الخرائط فإن المدينة تظهر ازدهاراً أيام البرتغاليين مقارنة ببلاد القديم المزدهرة إبان الحكم الصفوي.
ولكن تلك الظروف كانت أيضاً بمثل سيف ذي حدين، الوعد المؤكد بالازدهار والمشجع بآن واحد للقلاقل السياسية.
وتشير فوكارو فقط إلى ضرائب الجمارك المفروضة على التجارة الداخلة كامتداد لضرائب حماية تقليدية فرضتها القبائل في أيامها الأولى، ولاحظت استثناء اللؤلؤ من أية ضرائب جمركية.
والحقيقة أن ضرائب الحاكم على اللؤلؤ كانت تجبى في موقع آخر وأثناء الإنتاج، فعلى كل سفينة يحصل الحاكم حصة تساوي حصة غواص ضمن كل رحلة سنوية أي ثلاثة أسهم، وكان ذلك بمثابة مصدر دخل منتظم وكبير في أيامها بالنظر إلى عدد السفن الذاهبة للغوص سنوياً بكل ميناء.
وكان للتجار وسيلة أساسية وتكاد تكون وحيدة في مواجهة الوضع السياسي، إن لم تعجبهم ظروف ما، أو سياسة ما، أو ضريبة ما يغادرون الميناء، وعلى سبيل المثال، فحين اضطربت الأوضاع السياسية في البحرين بسبب النزاعات، لاذت جماعات كبيرة من التجار بالكويت طلباً لاستقرار الأوضاع، وبالعكس حينما فرض حاكم الكويت مبارك الصباح ضرائب لم تلق قبولاً من بعض تجار الكويت لاذ هلال بن فجحان المطيري بالشيخ عيسى بن علي في البحرين معبراً بذلك عن احتجاجه.
المنامة في خمسة قرون
يقول الفنان التشكيلي عبدالكريم العريض في كتابه «مدينة المنامة خلال خمسة قرون» إنه «من خلال بحثي عن ماضي أيامها وعابرها، لم أعثر على ما كتب عنها سوى اسمها دونما وصف لعمرانها وحياة مجتمعها إلا القليل، قال عنها البعض منام الشيخ، وقال آخر المنعمة التي تنعم على ساكنيها بالخير والعطاء وهي بندر بلاد البحرين وهي حديثة البناء كان ذلك في القرن الرابع عشر الميلادي عندما نزل بأرضها القائد البرتغالي وأطلق عليها بنمار».
تأريخ فضاء المكان
إن كتابة تاريخ الفضاء المكاني للمنامة، هو تقريب الإنسان من محيطه البيئي والاجتماعي والإنساني والروحي، حيث إنه كلما اقتربنا من فهم تاريخ المكان الذي نعيش فيه، عرفنا كيفية التعامل مع أنماط الحياة المتطورة والمتغيرة بصورة صاروخية، خاصة في أيامنا هذه.
إننا حينما نتعرف على المحيط الذي ننتمي إليه، ونعرف تاريخه وكيفية نشأته، خاصة أن الكثير من المعالم القديمة، نتيجة لضريبة التقدم الحضاري، تهدم وتغيب عن الذاكرة، من هنا أرى ضرورة الاهتمام بالكتابة عن الوطن ككل والاهتمام بكل كتابة عن القرى والفرجان، حفظاً لتاريخنا من الاندثار.