كتب - أمين صالح:
كل محاولات الزوجة الشاقة للنطق تبوء بالفشل. وحتى الموسيقى، مصدر الولع والشغف، تعجز عن تقديم العون والمؤاساة. وهي لا تصل إلى مرحلة العته والخبل بحيث تتصرف بلا منطق ولا عقلانية، فالمشهد الذي يصورها وهي ترفض بغضب وعناد أن تأكل أو تشرب يوحي بأن ثمة عقلاً محاصراً داخل الجسد، هي تعرف أن الرفض هو الشكل الوحيد المتروك لها للتحكم في قرارها، فيما تريد.. رغم أن الامتناع عن ذلك سوف يفضي بها إلى الموت لا محالة. بالأحرى هي تريد أن تموت، وهو يحاول أن يبقيها حية.
رغم أن عالمهما يتعرض للتصدع والانهيار، ويتقوض شيئاً فشيئاً، إلا أن فيلم «حب» يستمر في التوكيد على حالة الحب التي تربط بين الاثنين وما يتقاسمانه من شغف ومعرفة.
هو يعتني بها بحرص وعناية ودقة، وبوفاء وإخلاص يكشف عن عمق مشاعر المحبة. يساعدها في قضاء حاجتها، يطعمها، يغذيها (قسراً أحياناً)، يعينها في إجراء التمارين البدنية، يغير لها ملابسها.. يتحمل أناتها وتأوهاتها التي لا تنقطع. يتولى حمايتها، ويحرص على تجنيبها كل ما يمكن أن يسيء إليها ويجرح مشاعرها.. إنه يضطر إلى توبيخ ابنته ثم الممرضة على افتقارهما للحساسية والرهافة في التعامل مع زوجته، أو التصرف معها بطريقة مهينة (كما في حالة الممرضة التي تثير غضبه بإيماءة طفولية تقوم بها، عندما تضع مرآة أمام وجه زوجته لتلقي نظرة على مظهرها فيصرفها من الخدمة طالباً منها عدم العودة).
وهو يجد ذلك شاقاً وموجعاً ولا يحتمل، لكنه يستمر بلا تذمر. إن حس المسؤولية ضمن شروط أو حالات أليمة يقتضيها حب غير مشروط.
لكنه في أحد المشاهد لا يتمالك نفسه ويفقد أعصابه فيصفعها. تعابير وجهها تتجمد في رعب وذهول. أما هو فيندم سريعاً ويبدو عليه الوجع والإحساس بالذنب لأنه تصرف بوحشية وبدائية. بعد هذا المشهد مباشرةً نرى سلسلة من اللوحات.
عندما طلب من هانيكه، في إحدى المقابلات، أن يفسر هذا الانتقال المفاجئ إلى اللوحات، قال: «المشهد مفتوح على التأويل. اللوحات والحمامة وغيرها هي أشياء قابلة لأكثر من تأويل. إنها موجودة لتحدي الجمهور، لتحريض الجمهور على التفكير في هذه الأسئلة... تلك الأشياء تساهم في بلوغ الفيلم الذروة العاطفية. إنها تقترح مستوى ما وراء الواقعي».
حمامة ضالة تدخل الشقة، ولا تجد مخرجاً. تعجز عن الخروج. تصبح محاصرة. وجورج يلاحقها حتى يمسك بها ويحررها. هل ثمة رمزية هنا؟ ما دلالة الطائر؟
يرد هانيكه قائلاً: «انظر إلى الحمامة بوصفها حمامة فحسب. يمكنك أن تفسر المشهد بأية طريقة تشاء. لكنني لا أستطيع أن أعتبر ذلك رمزاً. شخصياً لدي مشكلة مع الرموز لأنها دوماً تعني شيئاً محدداً. أنا لا أعرف ما تعنيه الحمامة. كل ما أعرفه، يقيناً، أن هناك حمامة تدخل الشقة.. قد ترمز إلى شيء ما بالنسبة لجورج أو لمتفرجٍ معين، لكنها لا ترمز إلى أي شيء بالنسبة لي. يتعيّن عليك أن تكون حذراً عندما تتعامل مع عناصر ذات معانٍ متعدّدة. ينبغي التعامل مع هذه العناصر على نحو غامض».
إن الزوج يبلغ النهاية المحتومة التي تقتضي منه أن يخلصها من بؤسها وعجزها وحالة الإذلال التي تتعرض لها كل دقيقة. مع مرور الوقت يرى ضرورة أن يحررها من آلامها وعذاباتها. إنه ينهي حياتها بيديه كفعل حب أخير. يخنقها بالوسادة لأن رؤيته لها وهي تتعذب من دون أن يكون في مقدوره تقديم أي لمسة راحة وفرج، ومن دون أن تكون هناك بارقة أمل لشفائها.. كل هذا أصبح لا يحتمل ولا يطاق بالنسبة له. بقتلها هو ينهي عذابها وأوجاعها. إنه القتل بوصفه فعل حب.
لكن قبل أن ينهي حياتها بلحظات، يروي لها القصة الأخيرة.. يرويها بهدوء وحميمية: إنه يتذكّر حادثة من طفولته، عندما أصيب بمرض معدٍ أدى إلى منع أمه من الاعتناء به بشكل مباشر. وقتذاك شعر بعجزها وعذابها وهو يراها تنظر إليه من بعيد، عبر زجاج النافذة في جناح المستشفى. إنه العجز ذاته الذي بات يشعره وهو يراقب زوجته فاقد القدرة على مد يد العون لها.
وهانيكه هنا لا يريد أن يثير الجدل حول فكرة القتل الرحيم، أو يطلب من المتفرج أن يكون مؤيداً للفكرة أو معارضاً لها. بل يهتم أساساً بسبر مفهوم الحب ومعناه، متحرياً الصورة المثالية للمحبوب والصورة الواقعية المخيفة. متى تكون الحبيبة حقيقية ومتى تكون نسخة مختلقة، مثالية.
إن أي حديث عن الفيلم لا يكون وافياً من دون الإشارة إلى الأداء المذهل، المدهش، المؤثر والمقنع، البالغ الحساسية، الذي قدمه اثنان من كبار الممثلين الفرنسيين: جان لوي ترينتينان الذي لمع نجمه مع فيلم «رجل وامرأة» (1966) وايمانويل ريفا التي اشتهرت مع فيلم «هيروشيما حبي» (1959)، والتي هنا تعري نفسها جسمانياً وعاطفياً. دورها لا يعتمد على الكلام، لكن كل مشاعرها ودواخلها تكشفها أو نجدها منعكسة في عينيها.
فيلم «حب» موجع، حزين لكن صادق، مرهف، وبالغ الحساسية. ولا يتكئ على الإثارة أو الميلودراما المفرطة، بل ينحاز إلى البحث الفلسفي عن العلاقات الإنسانية.
«حب» عمل استثنائي، فذ، حقق نجاحاً هائلاً. حاز الفيلم على جائزة مهرجان كان الكبرى كأفضل فيلم. جائزة أفضل فيلم في مهرجان الفيلم الأوروبي، إضافة إلى أفضل مخرج وممثل وممثلة. جوائز جمعية النقاد في لوس أنجلس كأفضل فيلم وممثلة. جوائز الجمعية الوطنية لنقاد السينما في نيويورك كأفضل فيلم ومخرج وممثلة. جائزة جولدن جلوب الأمريكية كأفضل فيلم أجنبي. جوائز الأكاديمية البريطانية (بافتا) كأفضل فيلم أجنبي وأفضل ممثلة. جوائز الأكاديمية الفرنسية (سيزار) كأفضل فيلم ومخرج وسيناريو وممثل وممثلة. جائزة سبيريت للسينما المستقلة في كاليفورنيا كأفضل فيلم أجنبي. أوسكار أفضل فيلم أجنبي.