ترجمة - أمين صالح:
*اخترت «حب» عنواناً للفيلم لأنني لم أتوصل إلى عنوان أفضل منه. وضعت قائمة تضم عشرين عنواناً، غير أني لم أقتنع بأي واحد منها. وتصادف أن تناولت الغداء مع جان لوي (ترينتينان) وقرأت له القائمة، فقال لي: الفيلم يتحدث عن الحب، فلم لا تسميه ببساطة «حب»؟
في الحال اقتنعت باقتراحه. لو كنت أنوي تقديم قصة حب تقليدية، لما اخترت هذا العنوان على الإطلاق، لأنه سيكون جلياً أكثر مما ينبغي.
* إنك تقدم مظهراً واحداً فقط من الحب. لكي تنغمس حقاً في كل مظهر أو وجه من وجوه الحب فإنك تحتاج إلى خمسين ألف رواية ومسرحية. إنني هنا أقدم مظهراً واحداً من الحب، لكن أعتقد أنه مظهر هام. ما كنت لأجرؤ على اختيار «حب» عنواناً للفيلم لو كان يتعامل مع قصة حب تقليدية، لكن في هذا السياق أظن أن العنوان يمنح الفيلم نبرةً معينة، قوة معينة.
* الحب الحقيقي يتصل بالأفعال أكثر من المشاعر. الحب، بمعناه الحقيقي، ينبغي أن يكون عملياً. ما نفعله لمن نحب هو أكثر أهمية مما نشعره تجاهه.
* نقطة الانطلاق للفيلم كان مروري بتجربةٍ ما في محيط أسرتي. أحد أفراد أسرتي كان مريضاً جداً، وكان يعاني ويحتضر. كنت على علاقة حميمية به، وأحببته بعمق شديد. لكنني لم أستطع أن أفعل له شيئاً. كنت أراقبه في عجز تام فيما هو يكابد لفترة طويلة ويعاني آلاماً شديدة. كانت بالنسبة لي تجربة صعبة، مزعجة، رهيبة، ومروعة. هذا ما حرّك مشاعري وحثني على كتابة السيناريو.
الفيلم ليس عن الشيخوخة بقدر ما هو يبحث في هذا السؤال الكوني الذي سوف نجابهه جميعاً يوماً ما، وفي مرحلة ما: «كيف أتعامل مع آلام شخص أحبه؟ كيف يمكنني التغلب على ما تسببه لي معاناة وعذابات من أحب في حين أنني أعجز عن القيام بأي شيء؟»
ما كان بوسعي أن أتعامل مع الفيلم بجعله يتحدث عن زوجين في منتصف العمر، ولديهما ابن في الخامسة من عمره، يحتضر نتيجة إصابته بسرطان أو مرض خطير. تلك ستكون حالة مأساوية، دراماتيكية مثيرة، لكنها حالة فردية، معزولة. بينما احتضار شخص متقدم في السن ليس حالة معزولة. هي مأساوية أيضاً لكنها عامة أكثر، تمسّ كل شخص. ولأنها تحدث ضمن ذلك السياق، فإنها تتيح للجمهور إمكانية أكبر للتطابق والتماهي.
أيضاً أردت أن أتجنب تحقيق فيلمي كدراما اجتماعية. هناك ما يكفي من أفلام تعالج هذه الثيمات كدراما اجتماعية، حيث البيئة والمحيط والمستشفيات وسيارات الإسعاف والأطباء. لم أكن مهتماً بتصوير ذلك، بل أردت تحقيق دراما وجودية.
* من السهل جداً استغلال الحالة الوجدانية عند الجمهور بعرض أشياء معينة، بالتركيز على المعاناة. ذلك قد يخرب الفيلم ويفسده. من المهم أن تكون قادراً على التعامل مع الفيلم وأنت تحترم كرامة الشخصيات التي تعرضها.
الناس دائماً يناضلون من أجل المحافظة على كرامتهم، وكلما ازداد الوضع صعوبة، صارت المعركة أكبر. ذلك هو قدرنا كبشر، بصرف النظر عن أعمارنا. كل فرد يجد نفسه في مجابهة سؤال عن المدى الذي يكون فيه مهيئاً للتخلي عن قدرٍ من كرامته، أو إلى أي مدى يكافح ويقاوم.
الجيل الأقدم هو الذي يرحل دوماً، والذي يكون منبوذاً، فالعالم من حوله يتغير إلى درجة أنه لا يعود قادراً على التعامل معه. إن مجتمعاتنا مؤسسة بطريقة لا تسمح لغير الأصحاء والأثرياء بالانتساب إليها. كل معاق وفقير معرض للطرد من بيته وبيئته.. وهذا هو كابوس كل فرد.
بالنسبة لي، لا أستطيع أن أحقق فيلماً إلا عن الجيل الذي أشعر بتآلف معه.
* كما قلت، وراء هذا العمل تكمن قصة شخصية هي التي حركّتني وحرضتني على التعامل مع هذه الثيمة. لا علاقة لي، على المستوى الشخصي، بما تراه على الشاشة، لذلك كان من الضروري، بالنسبة لي، أن أقوم بالكثير من البحوث والتحضيرات، فذهبت إلى المستشفيات، وقضيت أوقاتاً في دور المسنين، وتحدثت مع الأطباء. أيضاً حضرت عدداً من جلسات العلاج النفسي للتغلب على فقدان النطق عند ضحايا الجلطة الدماغية، حيث يستعيدون قدرتهم على النطق. إيمانويل ريفا لم ترغب في القيام ببحوث في الشخصية وفي مرضها، بل طلبت مني أن أفعل ذلك بالنيابة عنها وأريها ما يتعين عليها أن تفعله. كانت تثق بي، وتعتمد على بحوثي. وقد شعرت أن من المهم أن نمتلك تلك الدقة والصحة في الفيلم.
* خصوصاً مع قصة حميمية كهذه، من الضروري تماماً المحافظة على مسافة بينك وبينها، وتظل تحليلياً، وإلا فإنك تنزلق سريعاً نحو العاطفية المفرطة والدراما المبتذلة، التي بالتأكيد سوف لن تنصف الموضوع. إنه موضوع جاد ومهم جداً، ولا ينبغي تعريضه لحالة من الوجدانية الرخيصة. كان من المهم جداً بالنسبة لي أن أتفادى كل أشكال العاطفية المفرطة، وأتفادى أي نوع من التصوير المشهدي المثير للمعاناة. هذا هو سبب اختياري البناء الشكلي المحكم، حيث هناك وحدة من الزمن والموقع والحبكة. وحدة التراجيديا الكلاسيكية. كل شيء يحدث في شقة الزوجين المسنيْن. مكان محدد، وإطار زمني محدود جداً. موضوع هام كهذا يحتاج إلى جمالية رزينة وجادة. كان عليّ أن أظل رصيناً مع الثيمة، أن أجد بالأحرى شكلاً صارماً.
* عندما تكون كهلاً أو عاجزاً بسبب الشيخوخة، فإن حياتك تكون مقيدة إلى، ومحصورة ضمن، الجدران الأربعة التي تعيش بينها. كلما طعن الأفراد في السن، وتناهبهم المرض، تقلص عالمهم وتضاءل إلى حدود الجدران الأربعة التي يعيشون ضمنها. إنهم يوصدون الباب في وجه العالم: إنه التحدي الذي لا يستطيعون التغلب عليه.
لهذا السبب اخترت أن يدور الفيلم، في معظمه، في مكان واحد، داخل شقة. أما عن الأسباب الجمالية لهذا الاختيار، فقد خطر لي أنك عندما تتعامل مع موضوع جاد كهذا، فإنه يتعين عليك أن تجد مكاناً ملائماً كما لو على خشبة مسرح. لهذا السبب عدت إلى شكل من أشكال المسرح الكلاسيكي: حدث مبني على زمن حقيقي.. بدا لي هذا مناسباً للتحول الحاصل في طبيعة حياة الشخصيتين.