كتب - علي الشرقاوي:
يأتي تكريم الناقد البحريني د.عبدالله غلوم عن مجمل أعماله من قبل «اثنينية جدة»، تكريماً للفكر والنقد بحرينياً وعربياً، وهو الناقد الذي لا يمل عن نقد أعماله، ودوماً كان ينتهي من كتاب بسؤال عن مؤلف ثانٍ.
الطيب صالح قال عنه «إنك تقتل نفسك من شدة الحذر على الموضوعية»، بينما يعتبر الشاعر قاسم حديد كتاب غلوم «المسافة وإنتاج الوعي النقدي» نموذجاً إضافياً لتأصيل الأصول.
شواطئ اللؤلؤ
مؤســس منتــدى الاثنينيـــة الشيــــخ عبدالمقصود خوجة قال خلال حفل التكريم «مرحباً بشواطئ اللؤلؤ، حضارة دلمون، أرض المليون نخلة، البحرين وهي تزف إلينا الليلة د.إبراهيم عبدالله غلوم، الأكاديمي والناقد الأدبي المعروف، فوشائج اللقاءات بين اثنينيتكم والبحرين متجذرة متأصلة، متألقة، متوهجة، ومستمرة، كلما نتسامى فوق جراحاتنا».
وأضاف «ما أن يذكر في محفل إلا وتتداعى معه شؤون وشجون المسرح، وللمسرح لقاءات وذكريات في أمسيات الاثنينية، منح ضيفنا المسرح في البحرين والخليج بصفة عامة جل اهتمامه، وأسهم فيه بجهد مقدر برعاية كثير من الندوات والمؤتمرات، وأفرد العديد من الدراسات وأوراق العمل عالجت قضاياه، وهذا نابع من إيمانه العميق بالدور المطلوب للمسرح في الحياة العامة باعتباره أبا الفنون، وحاضن شذرات الفن التشكيلي، والشعر، والموسيقى، والأزياء، وفنون الإضاءة، وتقنيات الصوت، والإخراج المسرحي، وغيرها من وسائل ارتبطت ماضياً وحاضراً بخشبة تنبض بالحياة، وتقتبس أجراساً منها تعلقها في المجتمع كلما دعت الضرورة، لتثير التفاعل المنشود وتسهم في علاج كثير من القضايا».
وأردف «عرف فارسنا بإنجازاته الأكاديمية، وحاول أن يعيد أمجاد هذا الفن العريق بعد أن بدأ ينحسر حتى في عرينه، إلى الخليج العربي، مندمجاً برسالة هذا الفن المهم، مؤكداً أن تجربة كتابة النص المسرحي في الخليج العربي مرت بمراحل متعددة، منذ عقد الثلاثينات من القرن الماضي وحتى الآن، مذكراً أن النص ليس نتاجاً لحالة تراكمية، بل انطلاقاً من رغبة في تغيير الواقع ونقده والتوق إلى التعايش مع آلامه، أو المصالحة مع مظاهر التخلف فيه».
وواصل «بحسب غلوم المسرح لم يتحول إلى صيرورة -والتعبير له- مقابل صيرورة الشعر في الثقافة العربية، بل ظهر كفن عابر في سياق حركة تاريخية لم تهدأ من المثاقفة، وعبر علاقة غير متوازنة مع الثقافة الغربية، وتميز ضيفنا بانفتاحه على الآخر، وثقافته، ما جعله يدلف إلى ميادين فلسفية وصور معرفية جديدة، ليستخدمها في النظرية والتطبيق، ومن أهم كتبه (المسافة وإنتاج الوعي النقدي.. أحمد المناعي والوعي بالحركة الأدبية الجديدة في البحرين)، وتناول فيه الفترة الممتدة من 1958 حتى عقد الثمانينات ويقول عنها إنها (فترة العقل الناقد الجماعي)، وتأتي بعد (لحظات انكسار تــأسيس العقـل النقدي)، موضحاً أن الحركة الأدبية الجديدة في البحرين عملت على ثلاث مقولات هي (الإنسان، والعقل، والنقد)».
صداقة التجربة والنص
ويقول الشاعر قاسم حداد «يسعدني أن أتحدث عن الصديق إبراهيم غلوم على صعيدين مميزين وغير منفصلين، الأول منهما بوصفه صديقاً، والثاني بوصفه الناقد والأديب، إنه من بين الأصدقاء أشعر معهم بعفوية تمنح الحياة حيوية وجمالاً، وأتشوق إلى رفقته في الفعاليات الأدبية عندما يتسنى لنا ذلك، ففي مثل هذه المرافقات تتاح الفرص الأفضل للاسترسال في الحديث الحميم في كل شؤون الحياة، وتجديد مراجعاتنا لبعض الرؤى المشتركة». ويضيف «غير أن الصداقة بالنسبة لإبراهيم تتجاوز البعد الشخصي، لكي تصبح صداقة التجربة والنص، وهذا ما يجعله قريباً مما أكتب، بدرجة تسهم في إضاءة العديد من النصوص قبل وبعد إنجازها، وبالدرجة ذاتها تمنحني درجة الاكتشاف فيما أقرأ نصوصه نقداً ومطارحات».
ويردف «يمكنني في هذه الكلمة القصيرة أن أشير -حسب رأيي- إلى أهم ما يميز تجربة الكتابة النقدية لدى هذا الصديق، ففي مجمل مشروعه النقدي منذ بدايته المبكرة كان معنياً بما يمكن وصفه بتأصيل الأصول عبر قراءتها ونقدها، ولكي لا أشير إلا إلى الأمثلة، سأضرب مثلاً في أطروحته المبكرة عن (القصة القصيرة في الخليج العربي)».
ويلفت إلى أن «الكتاب كان حجر الأساس لنظراته النقدية لفن القصة في دول الخليج، ففي تلك الدراسة العامة عمل من خلال بحث ميداني دؤوب على تقديم رصد دقيق وعميق لمجمل الكتابات القصصية وقراءتها بتأمل المراجع النقدي، في سبيل اكتشاف المكونات المبكرة في فن القص، وهي أرضية سيرى في ضوئها المؤسس التجارب القصصيــة المعـــاصــــرة والجديدة، وهو بذلك يضع التجربة القصصية برمتها في السياق الأدبي والتاريخي المناسب لكي نكتشف كيف أن العمق الاجتماعي بوعيه الحضاري لدى كتاب القصص هو عمق متصل بجذور وعي مبكر في تلك الأصول البعيدة، وهو بذلك الكتاب تسلح بأدوات تاريخية تعضد أدواته النقدية اللاحقة في الحقل ذاته».
ويصف الكتاب بأنه «يوفر للباحثين من بعده المرجع الـــوثيــق الصلةــ بالتجــربــة القصصية في هذه المنطقة، وفي تجربته الثانية ضمن سياق تأصيل الأصول، نلاحظ انشغاله بمراجعة أدبية مميزة لمشروع (البواكير)، حيث انهمك فيها بدراسة التجارب الأدبية الأساسية في بداية القرن العشرين وارتبطت بالنهوض الثقافي في المجال الأدبي، والبواكير سلسلة ابتكرها غلوم كي يحقق خطوته المعمقة في مراجعة الأصول ونقدها وتأصيلها من دون أن ينتظر المبادرات المؤسسية المتأخرة عنه دوماً».
ويتابع حداد «في مشروع البواكير نراه يدرس في كتابين منفصلين (مسرح إبراهيم العريض) الذي شكل في وقته التجربة المسرحية المبكرة نصاً وممارسة، كي يستكشف الإسهام الأدبي (شعراً) في بواكير النزوعات الدرامية الاجتماعية وفي ثقافة بدايات ومنتصف القرن الماضي، وهذا الكتاب يمثل اتصالاً حيوياً بأحد أبرز اهتمامات إبراهيم غلوم النقدية وهو النقد المسرحي، وشكل منذ سبعينات القرن الماضي مجال فعله النظري والفني والتنظيمي». ويواصل «في مشروع (البواكير) نفسه يأتي الكتاب الثاني في شكل دراسة البدايات النقدية والأدبية في البحرين والخليج، متخذاً من تجربة عبد الرحمن المعاودة شعراً ومناقشات نموذجاً للمرجعيات والانزياح، متخذاً من الأرشيف الصحافي المطلوب في أربعينات القرن الماضي في الصحافة البحرينية مصدراً وثيقاً غنياً بتلك اللمعات المدهشة بجرأة النظر النقدي العفوي، ما يشكل لتجربة إبراهيم غلوم مصدراً حميماً للنزوع الإنساني الفذ الذي يغني منظوراته النقدية الجديدة».
ويقول «في نموذج ثالث من نزوع إبراهيم غلوم نحو تأصيل الظواهر الثقافية، أعتقد أن كتابه (الثقافة وإنتاج الديمقراطية) الصادر عام 2002 هو بمثابة الاستباق التأملي والنقدي لما ستتعرض له الثقافة من إشكاليات بالغة التعقيد في خضم ما يسمى بالمشروع الإصلاحي الراهن، إذ عمد الباحث إلى مراجعة التجربة الثقافية في مسيرتها المعاصرة، ورصد الفعل الثقافي بوصفه خطاباً في الديمقراطية، ولعل إبراهيم غلوم من أبرز المتصلين بتاريخ الفعل الثقافي تنظيراً وممارسة في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الماضي، ومن أكثر المشاركين المباشرين لمجمل المشاريع والفعاليات الثقافية في المنطقة، ممن أسسوا وشاركوا في صياغة أكثر المشاريع وبرامج العمل الثقافية على الصعيدين الأهلي والرسمي».
وأضاف أن غلوم شارك في كتابة جانب مهم من خطة التنمية الثقافية العربية «أقول هذا كي أشير إلى حجم إحباط عايشه إبراهيم غلوم في سعيه الجاد من أجل صياغة رؤية ثقافية وسياق يليقان بهذه التجربة الغنية العميقة، مؤمناً أن ثقافة على هذه الدرجة من النمو والتبلور لابد لها أن تأخذ مكانتها ودورها الفعالين في أي مشروع تنموي مزعوم في المنطقة، وفي هذا الكتاب بالذات يصوغ إبراهيم غلوم منظوراته المعمقة مستخلصاً الدروس والمعطيات الأساسية لمجمل التجربة سعياً لوضع هذه الثقافة بمكانتها ودورها المناسبين في المشاريع التنموية التي يجري الكلام عنها بين وقت وآخر، وهو من بين أكثر المنهمكين في هذا الحقل عاملاً بقدر كبير من الجدية والرصانة، وهو يرقب هذه التجربة بالذات وهي تتعرض لمحاولات المسخ والاستهانة والامتهان وعدم الاكتراث من أصحابها المزعومين في الجانبين الأهلي والرسمي، ولو كانت هناك قراءة موضوعية وجادة في واقعنا الثقافي لاستحق هذا الكتاب بجهده المتأمل أن يكون موضوعاً حوارياً لمزاعم نشيطة استغرقتها المنافحات السياسية المتصلة بالشأن الثقافي تكريساً لمشاريع الإصلاح الرائجة كزينة سياسية تفرغ الثقافة من نقديتها».
وينتهي حداد إلى القول «أخيراً أشير إلى النموذج الثالث المتمثل في آخر إصدارات إبراهيم غلوم وهو كتاب (المسافة وإنتاج الوعي النقدي)، بوصفه نموذجاً إضافياً وضافياً للنزوع المميز في تجربته النقدية في سبيل تأصيل الأصول من خلال القراءة وإعادة القراءة ونقدها، ففي هذا الكتاب الفاتن يراجع الباحث مرحلة التأسيس الحديث للحركة الأدبية الجديدة في البحرين، متحدثاً عن تجربة الناقد الصديق أحمد المناعي التي أسهمت بفعالية عالية في تأسيس الفكر النقدي بوعي الجيل الجديد لدوره الحضاري في حقل المعرفة الأدبية وفنونها».
ويختم «رصد إبراهيم غلوم مجدداً في كتابه وبشكل دقيق الأدوار النقدية لأحمد المناعي برفقة آخرين بتميز متحرر من المزاعم وخطابات الوهم، ذلك هو إبراهيم غلوم في مجمل مشروعه الثقافي المعرفي النقدي، عندما يؤكد لنا في كل مرة جماليات الدرس النقدي وهو يحتفي بشرط المراجعة الواعية لتراثنا الثقافي الحديث، كي تبدو تجاربنا واضحة الاتصال بمصادرها، ومكتنزة بالخبرة والمعرفة التي طرحها الدرس الأول في ثقافتنا دائماً أنتهي من كتاب بسؤال نحو كتاب آخر».
غلوم يتحدث عن نفسه
وقال د.إبراهيم غلوم في حفل تكريمه «اليوم أيها الإخوة والأخوات، أنا في أول طور أمر به وهو أن أتحدث عن نفسي، ولا أزكي نفسي، دأبت طوال سنوات طويلة في كل ما كتبت أن أتحدث عن الآخرين في نفسي، وأن أحاول أن أستجلي الصور المتعاكسة بيني وبين الآخرين، أعترف في البدء أني لم أكن موضوعياً بالقدر الكافي، وأن هذه الموضوعية التي توهمت يوماً من الأيام أنها سهلة ويسيرة مع الجهد ومع العقل ومع التجربة ومع البحث». وأضاف «توهمت أن هذه الموضوعية يمكن أن تعينني على اجتياز عالم الأنانية وعالم الشتات، ولكني اكتشفت في أحد الأيام عندما كان يتحدث عني -في سياق أحد المؤتمرات- الراحل الطيب صالح، كان يقول لي كلمة لعلي استوعبتها بكثير من الدقة فيما بعد، كان يقول لي (إنك تقتل نفسك من شدة الحذر على الموضوعية والنزاهة)، وفي الحقيقة كانت هذه الكلمة موجودة في داخلي ولكني كنت متعامياً عنها».
وأردف «اليوم وأنا أحاول أن أتجاوب مع هذا الموقف الجميل والمؤثر، أجد نفسي مضطراً فقط لا غير لأن أتحدث عن 4 أو 5 سياقات أو محطات أو مفاصل من تجربة لا أستطيع أن أتحدث عنها بشيء من النزاهة، ولا أستطيع أن أحيط بها، وأنا في الحقيقة، وهذا ما ذكرته في آخر كتاب لم يصدر بعد إنه بصدد الطباعة الآن، دائماً كنت أنتهي من كتاب بسؤال نحو كتاب آخر، وهذا هو فعل المعرفة، هكذا شأن الحقل الذي ابتلينا به وهو العلوم الإنسانية».
وتابع «في السياق الأول، أو المفصل الأول الهوية، التي سكنتني وانطلقت من مدينة صغيرة جداً ولكنها جعلتني أعيش أقصى ما تصل إليه أعماق الجزيرة العربية، وكنت حريصاً منذ وقت مبكر جداً منذ أعوام 1972 و73 و74 كنت أستخدم الجزيرة العربية والخليج العربي، وكأني أؤكد دوماً على أنني محاط بهذا النسق ولا أستطيع الفكاك منه، ولا أبرئ نفسي منه، في البدايات المبكرة جداً شغفت أو بدأت من خلالها أولى التصورات حول مسألة الهوية، مشروع كتاب لم يصدر ولكنه نشر في مجلة أدبية في حوالي خمس مقالات مطولة وعنوانه (الحياة الأدبية في قلب الجزيرة العربية)». وواصل «كنت حينها أسأل نفسي عن فترة معتمة جداً من تاريخ الجزيرة العربية تمتد طوال قرون منذ انهيار الدولة العباسية وحتى العصر الحديث، فترة مظلمة ومعتمة حقيقة، ومنذ هذه اللحظة بدأ عندي الشغف لمسألة دقيقة جداً ربما لامسها أخي وصديقي قاسم منذ قليل، ولامسها الأخ د.عبدالمحسن القحطاني وكذلك الشيخ عبدالمقصود خوجة، مرحلة معتمة لم يبحثها أحد ولم يتجرأ الكثيرون على بحثها، وأنا لمازلت في بداية العهد ولكنها كانت تشكل حاجزاً ذاتياً لا أعلم كيف ظهر في هذه الدراسة».
وقال «نشرت في مجلة البيان التي كانت تصدرها رابطة الأدباء الكويتيين عام 1974، وكان من الأمور وقفت عندها هذه الدراسة مسائل مهمة جداً تبلورت في ما بعد عبر النسق الثقافي والاجتماعي الذي تمحورت حوله العديد من الدراسات الفكرية والنقدية، كانت هذه الفترة قليلة المراجع فذهبت إلى المراجع التقليدية وأمسكت ببيوت العلم الأسر الممتدة بين ضفتي الجزيرة العربية، شرقي الجزيرة وغربها، أسر مشهورة ارتبطت بالعلم المرشدي والطبري والعصامي وآل شيخان وآل غنام وآل مبارك وآل عبدالقادر وقبائل في عمان وغيرها من تجمعات كانت تشكل الحلقة الغائبة في النسق الثقافي للثقافة العربية في هذه المنطقة، في هذا السياق أيضاً اكتشفت مسألة خطيرة ودقيقة جداً ولاتزال في الحقيقة غائبة عن البحث وهي قضية الهجرات، هجرات القبائل والتجمعات العربية في هذه الجزيرة، وأذكر أن هذا الموضوع كاد يدفع بي لأن أتخصص في علم الاجتماع أو الأنثربولوجيا، وكانت لدي تصورات عن وجود هجرات عمودية وهجرات معاكسة أو مناكصة أو هجرات أفقية أو هجرات داخلية، وهجرات متعددة أخرى، تولد منها أحد اهتماماتي الحميمة جداً وهو هجرة الهلاليين من قلب الجزيرة العربية إلى أفريقيا، ثم هجرات كثيرة جداً ومن ضمنها التكونات المبكرة لمجتمعنا في الخليج العربي وأنتم تعلمون التفاصيل التاريخية».
واستدرك «لكن من الأشياء التي وعيت عليها مبكراً، وقد يكون هذا غريباً بعض الشيء، هو أني وقعت على سياقات شعرية في هذه الفترة التي وصفتها بأنها معتمة، لا أدري ربما لم يقف معها أحد وخصوصاً في شرق الجزيرة العربية ومنطقة الحجاز، وأذكر في هذا السياق لا أدري إن كان أحد بحث في ذلك في ما بعد، أذكر شاعراً -اعتقدت ومازل- اسمه إبراهيم بن يوصف المهتار المكي، وقفت مع هذا الشاعر بشكل لا أعرف كيف حدث هذا الشيء، لكني اتخذت منه صوتاً يواجه مرحلة حاولت أن أدرسها وهو شاعر وصفه معاصروه بأنه شاعر مجون وعبث، وهاجمه معاصروه واصفين إياه بصفات سيئة جداً، خصوصاً عندما كتب قصيدة صور فيها سقوط الكعبة وتعرضها لنوع من السيول جرفت أحجارها، أذكر بعض الأبيات منها (إنا إلى الله من دنيا منغصة أيامها مستردات لما وهبت فأي عين على ما كان ما انسكبت وأي روح لما قد صار ما وصبت لهفي على كعبة الله التي افترقت أحجارها بعد ما في حبها اصطحبت لهفي على تلكم الأركان كيف هوت وكيف أوهت حصاة القلب إذ قلبت لهفي على تلكم الأستار كيف غدت أيدي سبا وبوحل السحب قد سحبت) واجهها معاصروها بأوصاف مقذعة جداً، والشاعر كان يكتبها بحس الشاعر الشاهد على عصره، لا أعرف إن كان أحد قد التفت إلى هذا الشاعر أو إلى قصيدته، ولكنها حتى اليوم أعتبرها نادرة من نوادر القرن السابع عشر الميلادي».
وتابع «هذه كانت محطة مهمة بدأت بها وهي مبكرة جداً، وربما لا يعلم بها كثيرون إلا الأصدقاء المبكرون عندما نشرت، لكنها أطلقت الكثير من التفاصيل المتجردة في تجربتي، وخصوصاً في ما يتصل بالمفصل الخاص بالنسق الثقافي والاجتماعي الذي بنيت من خلاله تجربة فكرية ونقدية طويلة ومجهدة ومضنية جداً ومتعبة، لدرجة أني في أحد الكتب وهو كتاب أشار إليه أخي قاسم منذ قليل بكثير من الحب وأنا أيضاً أنوي على حب لهذا الكتاب، لأنه ظلم كثيراً، فطبع طباعة رديئة جداً، جعلت كثيرين يستبيحونه وكأنه لمؤلف مجهول، وعندما وقعت الطبعة الأولى منه في يدي لم أستطع أن أقرأ سطراً واحداً من فرط رداءة طباعة الكتاب، فتركته، ومضى عليه عشرون عاماً، ثم كنت في فترة من فترات المرض التي مررت بها فقرأت الكتاب، وأذكر أني حينها تأثرت كثيراً من قراءة الكتاب لأني فرطت فيه، وأهملته، ولم ألتفت إليه، وأحسست أن فريقاً قد كتبه لم يكتبه شخص واحد، ولم يكن هذا الشعور غريباً لأني منذ فترة مبكرة اعتركت مع أصدقاء في سياق الحركة الأدبية الجديدة في البحرين، ومعي الصديقان قاسم حداد وأحمد مناعي وهما رمزان من رموز الحركة الأدبية ومؤسسان من أهم المؤسسين وضعوا أرواحهم في هذه الحركة، وعملت معهم في هذه التجربة بشكل مبكر ولم أنقطع حتى هذه اللحظة».
وذكر غلوم «حين وضعت الكتاب كنت أعيش وأشعر بأني حينما أكتب وكأن هؤلاء الأصدقاء يكتبون، ربما أسرفت في هذه المعايشة في بعض الأحيان إلى درجة لم أعرف كيف أميز نفسي في هذه النفوس الكثيرة، ثم امتدت هذه التجربة التي حاولت أن أقبض فيها على هذا النسق الصعب المستعصي النسق الثقافي والاجتماعي داخل النص نفسه، وهو أصعب من البحث عنه في المجتمع أو الواقع، عندما ظهرت أطروحات النقد الثقافي في السنوات الأخيرة، كثيرون تحدثوا عن العلماء الثقافي وعن العلماء من خلال النص، وهذا كله في الحقيقة أوهام، إذ مازلت أعتقد أن نسيج النص الإبداعي منفلت في سلسلة لا حصر لها من النصوص والتجارب، تكمن فيها أنساق لا بد من مواجهتها، ففيها تكمن أكبر وأخطر وأدق وأشرس ما ينتجه العقل البشري من أنانية وجوانية وذاتية وانغلاق».
وأضاف «في هذا السياق كتبت سوسيولوجيا التجربة المسرحية في الخليج، وهو كتاب تأطرت من خلاله دراسة أعتقد أني احتسبها عامة ودراسة أنجزت جانباً حياً، وأضاف لجهود نقدية حاولت أن تقيم صلة بنيوية بين النسق الثقافي والنص الإبداعي، وتوالت بعد ذلك التجارب الكثيرة (تكوين الممثل)، و(الثقافة وإنتاج الديمقراطية)، و(الخاصية المنفردة في الخطاب المسرحي)، كتابات كثيرة توغلت كثيراً في بحث هذا النسق، ومازلت لم أفرغ تماماً، في آخر ما كتبت كنت أشعر أن هذه النصوص التي واجهتها، هذه التجارب، مفخخة بشرك النسق الثقافي والاجتماعي، وهناك نصوص كثيرة جداً توهمنا في أيام سالفة بأنها تشكل إنجازات كبيرة ولكن عندما توغلت في دراستها اكتشفت إلى أي مدى هي متوغلة في نسقيتها، فإذاً من الهوية إلى النسق الثقافي الاجتماعي ثم إلى العقل الناقد الوعي ونقد الوعي وهذه في الحقيقة محطة شائكة جداً، وأعتقد أنها أهم ما يكون ما أكتب وهو أن أواجه نفسي بوعي أستخلصه من ذات التجربة نفسها».
واردف «وبدأ هذا السياق أو هذا المفصل مبكراً بالنسبة لي فتطاولت تجارب الناقد إبراهيم العريض هذا العملاق الكبير، ورواد الأدب في الخليج العربي ولم يكن فقط روادنا في منطقة الخليج، وحتى في الجزيرة العربية والبلاد العربية، الأفق العربي كان مفتوحاً لي في هذا السياق، لكن أعترف حقيقة أن هذا الوعي أعني الوعي ونقد الوعي هذه مسألة تشكل، حقيقة ما أفكر فيه وما أعقله، وأذكر في هذا السياق مثلاً كتاب القصة القصيرة الذي درست فيه تجارب قصاصين كثر، وبعد حوالي 7 أو 8 سنوات عدت إلى هؤلاء القصاصين مرة ثانية فكتبت عنهم، ووجدت في نفسي وكأني أكتب عن أشخاص آخرين، أنقد كل ما كتبت من قبل وأنقد كل ما فكرت فيه من قبل، وأكتب بروح جديدة، من أجمل ما عشت في سياق هذه التجربة هو أني اكتشفت المفصل الرابع وهو أن هذه التجارب التي أواجهها، وأنقد وعيها وأقيم وعياً آخر، ينقد وعيي بها مرة أخرى، هذه التجارب ليست منفصلة عن بعضها إنما هي نسيج، عالم متداخل، ولذلك ولوهلة سريعة بدت أوهام كثيرة تسقط، الوهم من الممكن أنني أستطيع أن أقرأ قصة قصيرة لوحدها، لم تعد القصة القصيرة قصة قصيرة، لم يعد كاتب القصة القصيرة، كاتب قصة قصيرة، لم تعد الرواية الواحدة رواية واحدة، أصبحت روايات وأصبحت القصة القصيرة تتابع سردي لا ينقطع، وأصبحت القصيدة قصائد لا تتوقف أبداً».
وتابع «لذلك أنا اليوم أستمتع بشكل لا مثيل له وأنا أقرأ قاسم حداد منذ البشارة وحتى آخر ما يكتب، وكأني أقرأ قصيدة واحدة، وأتعامل مع نص واحد لا تنفصل مفردات هذا الشاعر منذ تلك الأيام منذ الستينات حتى هذه اللحظات، ولم يعط ذلك إطلاقاً أي إحساس بأني أمام خلل أو مشكلة، هي شكوك لكن ذلك لم يكن يشكل خللاً أو مشكلة في هذه النصوص الإبداعية، على العكس اكتشفت أنها ترتفع أمامي أكثر وتسمو، تتنزه كلما وجدت النصوص في حالة غرق مطلق بين بعضها البعض زدت شغفاً بها، ولذلك كتبت عن الرواية في القصة القصيرة، واعتقدت حتى هذه اللحظة أن هناك مسرحيين يكتبون العشرات من النصوص وكأنهم يكتبون نصاً واحداً، أو كأن هذه النصوص الكثيرة امتدت على مدى عشرين عاماً وكأنها نص واحد بالفعل، من يستطيع أن يجزم أن صلاح عبدالصبور كان يكتب نصوصاً متفرقة، منذ (مأساة الحلاج) و(الأميرة تنتظر) و(بعد أن يموت الملك) و(ليلى والمجنون)، لا أحد يستطيع أن يقطع أن هذه النصوص متفرقة على الإطلاق، فهي نص واحد، إنها نسيج واحد، وكذلك الأمر بالنسبة لتجارب عزالدين المدني وسعدالله ونوس وألفريد فرج، كتاب كثيرون حتى في الجزيرة العربية كما درست، كثير من الأسماء، حتى كتاب ممن ظهروا في السنوات الأخيرة في المملكة العربية السعودية هنا، أتابع تجاربهم وأكتشف لذة شديدة بأني أقرأ نصوصهم المتفرقة وكأنها نص واحد، وكأنها نسيج واحد، تداخل غريب، وتداخل لذيذ، ويثير الشغف ويجعل المتأمل في عمق التجربة على هذا النحو مجالاً لأن يمرن أو يصقل وعيه عندما ينقد وعيه». شكه عندما يضع سلسلة من المسلمات السابقة كلها وكأنها بمثابة وهم ما أجمل ذلك ما ألذ ذلك «على هذا النحو، حتى عندما أسست مشروع بواكير، أو بحوث وتجارب كانت هناك مسألة دقيقة وخطيرة شغلتني بالفعل، شغلتني منذ أن كتبت عن الحياة الأدبية في قلب الجزيرة العربية، لماذا هذه الفجوات الكبيرة في ثقافتنا العربية؟ لماذا هذه القطيعة التي نكتشفها بسهولة في سياقات تاريخية مختلفة؟ شغلتني فكرة ردم الفجوات وشغلتني فكرة الأجيال المتقطعة التي يفتك بعضها ببعض بشكل لا هوادة فيه، ويذكر معي الصديقان الحميمان قاسم حداد وأحمد المناعي، فعاشا المرحلة الأولى من تأسيس الحركة الأدبية الجديدة في البحرين منذ عام 1965 ومنذ الكتابات الأولى والمبكرة لقاسم حداد ولأحمد المناعي ولجابر الأنصاري، وعبدالله خليفة، منذ تلك الكتابات الأولى وما واجهته الحركة الأدبية من حرب قوية وشرسة مع التركة التي كانت تحيط بهذه الحركة الطليعية الجديدة، ولذلك عندما جاء كتاب (المسافة وإنتاج الوعي النقدي أحمد المناعي والوعي بالحركة الأدبية الجديدة)، جاء بالفعل ليستكشف أهم عصب في هذه الحركة الأدبية الجديدة، وهو العقل الناقد، العقل الذي أسس لشيء وأعتقد أنه، يمثل جوهرة الحركة الشعرية في هذه الجزيرة الصغيرة والتي انطلقت فيما بعد وأثرت حتى على الحركة الشعرية الجديدة في البلاد المجاورة في المملكة العربية السعودية في عمان والكويت، في الإمارات العربية وقطر وغيرها». وواصل «هذا العقل أشرت إليه منذ قليل وهو الوعي بالعقل الناقد، ومازلت أعتقد أن تجارب الشعر القوية الصلبة امتدت على أربعة عقود وقمتها في تجربة قاسم حداد في الحركة الأدبية في البحرين، أعتقد -مازلت حتى هذه اللحظة- أن السر الأكبر والأدق والأجمل فيها هو في وعيها الداخلي بأهمية نقد وعيها، وهذا واحد من أهم ما رسخته وأصلته الحركة الأدبية الجديدة في البحرين».
وأردف «شاعر مثل قاسم حداد لايزال حتى هذه اللحظة من أكثر الناس قلقاً حتى هذه اللحظة، مع مشواره الطويل وتجربته العريضة حتى هذه اللحظة، يشكك في كل مفردة يقولها وفي كل صورة وفي كل صوت وفي كل هسهسة من هسهسات القصيدة، ولا أريد أن أتحدث بالتفصيل عن هذا الموضوع ولكن أنا أعرضه لأني وليد هذه التجربة وعشنا سوية في هذا الخضم، قد أكون أسرفت في الإطالة قليلاً ولكن المفاصل والسياقات التي أود أن أتحدث فيها طويلة وتحتاج لوقت طويل، ومازالت في مخيلتي وفي وعيي، وفي أوهامي وفي شكوكي، مازالت هناك أشياء كثيرة جداً في مشروع بواكير، هناك كتب حضرت تقريباً 90% منها تحتاج إلى لمسات أخيرة حتى تخرج في دراساتي الثقافية عن التراث، وعن الرواد وعن الثقافة العربية وخاصة في المعتقدات والتراث الشعبي والمثولوجيا، تحتاج إلى من يعينني على أن أدون كماً كبيراً من المدونات الشفوية التي وضعتها على مدى سنين طويلة وتملأ صناديق أتمنى من الله أن تكون لدي فرصة لأن أواصل هذا المجهود».
حلم المسرح العربي
وقال د.عاصم حمدان في كملته خلال الندوة التكريمية «من الندوات الأخيرة التي عقدت وشاركت أنا في تصميم هذه الندوات بعضها طرحت مجدداً إمكانية أن يعاد النظر في هذا السؤال، هل يمكن أن يكون لنا مسرح عربي خاص بنا؟ وكان مارون النقاش يستخدم عبارة ويقول (استخرج من الذهب الفرنسي، سبكاً عربياً)، كان يقول في مقدمته الشهيرة لمسرحية البخيل إنه يحاول أن يستخرج من الذهب الفرنسي سبكاً عربياً، ومشى على هذا السياق رواد المسرح العربي إلى أن ظهر يوسف إدريس، وسعد الله ونوس وكتاب من المغرب وجماعات احتفلت بالإجابة على هذا السؤال، ولكن الحقيقة كانت التجربة التي يمكن التعليق عليها اليوم هي أن كل ما وضع في هذا السياق كان محاولة لتقديم الصيغة التراثية لفكرة المسرح في هذه التجارب، وأعني بالصيغة التراثية أن كتابنا هؤلاء وجدوا في قصص ألف ليلة وليلة وفي الملاحم وفي التاريخ العربي ونحو ذلك، مادة أو حبكة يمكن أن يكونوا من خلالها مسرحاً، أو هكذا توهموا».
واستدرك «لكنهم ودون استثناء وضعوا المادة الخام، ولكن البناء والقيم المسرحية ظلت قيماً تنتمي إلى المؤسسة المسرحية الغربية، أو إلى النموذج المسرحي الغربي، ولا يعيب ذلك الظاهرة المسرحية العربية على الإطلاق، لأن المسرح وحتى في نموذجه الغربي ليس حكراً على عرق أو جنس من الأجناس، هو إبداع مفتوح لكل الناس ولكل مبدع ولذلك، أعتقد أن كتابنا العرب أبدعوا، في تجارب مهمة استطاعت أن تستوعب التقاليد المسرحية الإغريقية والغربية الحديثة، والأمثلة في ذلك كثيرة منها توفيق الحكيم، وسعد الله ونوس، وصلاح عبدالصبور، وغيرهم رغم أنهم أخذوا قوالب مسرحية غربية، هذا إشكال طويل ويحتاج إلى ندوة طويلة جداً فحاولت فقط أن أعطي لمسة بسيطة فيه».