ترجمة – علي مدن:
«لكن عند تلك اللحظة ألقيت نظرةً على الحشد الذي تبعني. كان حشداً هائلاً، ألفي شخص على الأقل وهو في ازديادٍ عند كل دقيقة، حجبوا الطريق لمسافةٍ كبيرةٍ على كل جانب، نظرت إلى بحر الوجوه الصفراء فوق الملابس المبهرجة، وجوهٌ كلها سعادة وانفعال من هذه الفرجة الممتعة، كلهم متأكدون أن الفيل سيصطاد. كانوا يراقبونني كما كانوا سيراقبون ساحراً على وشك أداء خدعة، لم يكونوا يحبونني؛ لكنْ مع البندقية السحرية في يدي كنت جديراً بالمشاهدة مؤقتاً. وفجأةً أدركتُ أنه يتحتم عليَّ قتلُ الفيل في نهاية المطاف. توقع الناسُ ذلك مني، وتوجب عليَّ فعله، كنتُ أستطيع الشعور بإرادة الألفين تدفعني إلى الأمام على نحو لا يقاوم، وفي تلك اللحظة -وأنا أقف هناك مع البندقية في يدي- حدث أني استوعبت للمرة الأولى عدم جدوى وخواء سيادة الرجل الأبيض في الشرق. ها أنا ذا كنت هنا؛ الرجل الأبيض مع سلاحه، واقفاً أمام حشد غير مسلَّح من مواطني البلد، ظاهرياً الممثل البارز في المشهد، لكن في الواقع كنت دميةً تافهةً تدفع إلى الأمام والخلف من قبل إرادة هذه الوجوه الصفراء في الخلف. أبصرت في تلك اللحظة أنه عندما يتحول الرجل الأبيض إلى طاغية فإنه يدمر حريته هو؛ فيصبح نوعاً من الدمى الجوفاء المتكلفة الهيئة الاصطلاحية لصاحب؛ إذ إن شرط حكمه أنه سوف يمضي حياته محاولا أن يبهر «سكان البلد»، وهكذا في كلِّ أزمةٍ سيتوجب عليه فعل ما يتوقعه «سكان البلد» منه، يرتدي قناعاً، ويتعوَّد وجهه على ملائمته. يجب عليَّ قتل الفيل، لقد ألزمتُ نفسي بفعل ذلك عندما أرسلت بطلب البندقية، على الصاحب التصرف كصاحب، يجب عليه أن يظهر حازماً، أن يعرف ما يريد وأن يقوم بأشياء محددة، أن أقطع هذه المسافة والبندقية في يدي وألفا شخص يسيرون في أعقابي، وبعدها أتخلف بضعف مبتعداً دون فعل شيء - لا فهذا مستحيل. الحشد سيضحك عليَّ. وحياتي كلها هي حياة كلِّ رجلٍ أبيضَ في الشرق؛ كان ذلك صراعاً طويلاً من أجل ألا أكون موضوعاً للضحك». من مقالة «صيد فيل».
«... أما عن الرَّبيع، فإنه حتى الشوارع الضيقة والكئيبة في محيط بنك إنجلترا هي ليست قادرة على استثنائه تماماً. إنه يأتي متسرِّباً في كلِّ مكان، مثل أحد تلك الغازات السامة الجديدة التي تمرُّ عبر كلِّ المرشحات، يشار إلى الرَّبيع عموماً ك»معجزة»، وخلال السنوات الخمس أو السِّت الماضية فإن هذا الاصطلاح التعبيريّ البالي أخذ زخماً جديداً. بعد أصناف الشتاء التي توجب علينا احتمالها مؤخراً، يبدو الربيع خارقاً فعلاً؛ ذاك أنه بات من الأصعب والأصعب تدريجياً الإيمان أنه سيأتي فعلاً، في كلِّ فبراير منذ العام 1940 وجدت نفسي أعتقد أنَّ هذا الشتاء سيكون دائماً، لكن بيرسيفون*- كما العلاجيم- تبعث دوماً من الموت في اللحظة نفسها تقريباً. فجأة في نحو نهاية شهر مارس تحدث المعجزة والمكان البائس المتهاوي الذي أعيش فيه يتّحول بسموٍ. نحو مركز المدينة في السَّاحة أشجارُ جنبة الرباط السخامية أضحت خضراء ولامعة، والأوراق تكثفت على أشجار الكستناء، والنرجس البريّ قد ظهر، والمنثور قد همَّ أنْ يتفتح، زِيُ الشرطي يظهر بلاشكٍّ كظلٍّ لطيفٍ من اللون الأزرق، وبائع الأسماك يحيي زبائنه بابتسامة، وحتى عصافير الدّوري تكتسي بلونٍ مختلفٍ تماماً حيث شعروا بدفءِ الطقس وجرؤوا على أخذ حمام، هو الأول منذ سبتمبر الماضي». ... من مقالة «بعض الأفكار حول العلجوم الشائع».
«... لم أعدْ مجدَّداً إلى كروسجييت قط. بشكلٍ ما فإني لم أفكرْ بأيام مدرستي إلا خلال العقدِ الأخير فقط. هذه الأيام أعتقدُ أنَّ مرأى المكانِ مرةً أخرى سيتركُ أثراً ضئيلاً عليَّ، لو كان مازال موجوداً. ولو أنني ذهبتُ إلى داخِله وشممتُ مرةً أخرى الرَّائحةَ المغبرة المتسمةَ بالحبرِ لغرفةِ الدِّراسةِ الكبيرةِ، ورائحة الزُّهورِ في المصلَّى والرَّائحة الرَّاكدة لحمَّامِ السِّباحةِ، وعفن المراحيضِ البارد، أعتقدُ أنني على الأغلب سأشعرُ بما يشعرُ به امرؤٌ دوماً عند زيارتهِ لأيِّ مشاهدِ طفولته: كيف أصبحَ كلُّ شيءٍ صغيراً، وكمْ هو رهيبٌ التّدهور الذي بداخلي!». ... من مقالة «هكذا، هكذا كانت المسرات».