كتب - جعفر الديري:
لا تغرف الروائية الشابة فتحية ناصر شخصياتها من بحر، بل تنحتها من صخر!. لذلك تظهر شخصياتها للقارئ خصوصاً في ثلاثية «أبحث عن نفسي» مرهقة بما تفرضه المتغيرات والتجاذبات عليها.
مع ذلك تبدو ناصر -في هذا الحوار- معجبة بالشخصية البحرينية، المحبة للخير والإصلاح، ورغم أن أجزاء العمل الفني لم تعد معزولة عن بعضها بعضاً، ويجري الكاتب العمل عليها في الوقت نفسه من خلال تقنيات سردية تسعى لمحو شخصيتها بطريقة أو بأخرى؛ تصر ناصر على الكلاسيكية كطريق لإيجاد الفردانية التي يمكن أن تتعزز كقيمة إيجابية.

ثلاثية «أبحث عن نفسي» رواية مستأصلة من نسيج مجتمع البحرين في تسعينات القرن الماضي، مجتمع ملون بأطياف وشخصيات عدة. ترى هل وجدت فتحية ناصر نفسها بالفعل، وسط هذا الضجيج؟
- أجد نفسي باستمرار مثلما أبحث عنها باستمرار. مع كل التغييرات التي تطرأ علينا في هذه الحياة، إن كانت بصفة شخصية، أو بصفة مجتمعية شاملة. بل إنني كلما ازداد الضجيج من حولي أزداد بحثاً في الداخل عن التناغم والأمان.
أين المقتنعين بفردانيتهم
خصائص شخصية ما في عمل درامي بحريني أو خليجي قد تتقاطع مع شخصية تعيش في عالم أوروبي. السؤال: أين نجد فردانية الشخصيات التي يمكن أن تتعزز كقيمة إيجابية؟
- لا أدري حقيقة أين نجد اليوم مثل هؤلاء المقتنعين بفردانيتهم حد الفخر أو على الأقل حد النظر إليها بشكل إيجابي. في هذا المجتمع، اليوم، الأمهات يخاطبن أبناءهن بلغة أجنبية!. والشباب والشابات أيضاً يمارسون سلوكيات غربية، ويعتمدون في أشكالهم إطلالات غربية. لم يعد الأمر مقتصراً على من عاد من أوروبا مصطحباً معه صدمته الحضارية ليعيش بها هنا!. بل أصبح حتى من لم يذهب إلى أوروبا في زيارة خاطفة يعيش صدمة حضارية، والدراما ليست سوى مرآة تعكس لنا ما نراه في الواقع.
أتساءل كثيراً حين أرى تلك المظاهر: هل هي الرغبة بلفت الأنظار، أو هو الشعور بالنقص ما يدفع الشخص لمحاولة الخروج عن جلده؟ ربما هو الشعور الداخلي بأننا بتنا خارج العالم، نعيش في هامشه ولكي ندخله فيجب علينا أولاً أن نتخلص مما بقي فينا، أو علق، من عقد ورواسب. أليسوا -في ذلك- على جانب من الحق إذاً؟! ألا يوجد لدينا بالفعل الكثير مما لم يعد يتواءم وروح العصر، وبات يستدعي التجديد، ويتطلب التغيير وحتى الاستبدال؟!. أليس لدينا ما ينبغي أن يقذف بكل بسالة في نفاية الماضي؟! أظن أنها مسألة اقتناع ذاتي في النهاية، اقتناع كل شخص بنفسه. بعدها تقع على كل واحد مسؤوليته الشخصية في خلق الموازنة بين كل ذلك حتى يعبر عن ذاته، ويعكس للآخرين خارجياً صورته الداخلية بالشكل الذي يرضيه.

تبرز شخصيات فتحية إلى الواقع مرهقة نفسياً بسبب ما تفرضه المتغيرات والتجاذبات، لكنها أيضاً محبة للخير والإصلاح. هل هي صورة منك؟ هل أنت معجبة بالشخصية البحرينية؟
- هي ليست صورة مني بقدر ما يتعين علي أنا أن ألتزم بأن أكون هي أثناء كتابتها. الكاتب لن يكون عادلاً، ولا واقعياً، إن اختار أن يكتب دوماً، وفقط ، عمن يشبهه. ولأن من الصعب على الكاتب في الوقت نفسه أن يكتب بصدق وبإقناع كافٍ عمن لا يشبهه البتة، فإنه يكون أمام خيارات ثلاثة: إما أن يشبه لبعض الوقت من يكتب عنهم، أو يصر على تكرار نفسه بأساليب وأشكال مختلفة لا تثير ارتياب القارئ ولا تزعجه، أو أن ينحاز لتفكيك ذاته مع كل عمل، واهباً لكل شخصية جديدة يكتبها جانباً من تلك الذات.
المتعة جزء من أشياء أخرى
عند التأمل في نصوص فتحية ناصر، نجدها تكتب في الغالب عن حياة أخرى وحروب من النوع السلس، تدور دون توقف. هل تتعمدين النزوح بعيداً عن المتعة التي توفرها الأعمال الفنية؟

- أفضل أن أقول عنها أنها حروب داخلية. صامتةٌ حد ألا تعطي لأحد أي مؤشرات بحدوثها. ولكن هذا لا يعني بأي حال أنها (سلسة)! . بل هي لا تقل عن الحروب المدوية قسوة وإيلاماً. ولا أتعمد النزوح بعيداً عن المتعة، ولكنني أزعم وأتأمل أن توفر نصوصي المتعة أيضاً مع ما توفره من أشياء أخرى.

بعيداً عن رومانسية الثقافة، ووفقاً لما تقتضيه فلسفة البقاء، وتعزيز شروط الأنا ودفعها باتجاه الأعلى، برأيك هل تشكل تجربتك الروائية وتجربة جيلك من الروائيات بالتحديد شيئاً بالنسبة لقارئ بحريني يخـــــــوض نزاعاته الشخصية بحثاً عن لقمة العيش؟

- ليس القارئ البحريني فقط، بل القراء في كل مكان باتوا منشغلين بلقمة العيش وهو واقع مفهوم. وشخصياً لا تزعجني تلك الحقيقة، التي عرفتها منذ بدأت أكتب. بل ما أرى أنه أكثر أهمية بالنسبة لي هو أن يؤثر ما كتبت فيمن قرأه، مهما قل عددهم. أن يلامس أرواحهم ويشعل فتيل أفكارهم إن تمكن.
أن أمسك بخناقك
لا أحب أن أطلق أحكاماً عامة على عمل ما، لكنني أحسست بعد قراءة فتحية وكأنها تمسك بخناقي بصورة هائلة، محاولة التأثير علي؟
- وهذا هو أقصى ما أطلبه. أشكرك. مثل هذه الكلمات من أفراد قليلين وفي مناسبات نادرة أو متفرقة، تغنيك عن ستة أصفار على يمين واحد أو أكثر، تزين كشف حساب يتوسط أعلى منتصفه اسمُ كتابك. في الإبداع، وفي الأدب تحديداً الأرقام غير مهمة: أرقام المبيعات، وعدد الطبعات.... هي أرقام لا يمكن إغفالها، نعم. ولكنها في النهاية ليست مقياساً حقيقياً لمدى نجاحك أو فشلك، ولا مؤشراً صادق التعبير عما أحدثه أدبك من أثر.

أجزاء العمل الفني لم تعد معزولة عن بعضها بعضاً، ويجري الكاتب العمل عليها في الوقت نفسه من خلال تقنيات سردية تسعى لمحو شخصيتها بطريقة أو بأخرى. لكنك لاتزالين مخلصة للكلاسيكية. هل هو توجه عن سبق إصرار وترصد؟
- أعترف بأنني مغرمة بالكلاسيكية فهي البناء الأساسي لأي عمل. منه جاءت كل أنماط الكتابة الحديثة وعليه تبنى كل أحداث القصص وأشكال السرد. لذلك أعتبرها خالدة لا تموت، ولا يمكن الاستغناء عنها. لكنني -مع ذلك- لست مخلصة لها تماماً!.
نعم، عن سبق إصرار وترصد تعمدت كتابة «أبحث عن نفسي» لتكون رواية كلاسيكية وذلك لأنني وجدتها هنا الأكثر ملاءمة لفكرة العمل والأكثر قدرة على إيصال الإحساس. لكني في رواية «الرجل السؤال» جربت السرد بطريقة العودة للماضي (الفلاش باك). ولهذا أستطيع أن أقول بأنني على توافق وفي قبول دائم لمختلف أشكال السرد. المهم بالنسبة لي، ومهما تعددت أساليب الحكي، هو أن تكون رؤية العمل وقصته واضحة تماماً للمتلقي فلا يسبب له (تعدد الرواة) مثلاً إرباكاً، ولا يؤدي الإفراط في التداخلات الزمنية أو تعدد الضمائر إلى التباس.
البعض اليوم يحاول الكتابة بأساليب أخرى فقط ليتجنب الكتابة بالشكل التقليدي، لئلا ينتقد لاختيار الكلاسيكية ربما أو حتى لا يتهم بعدم القدرة على التجديد والابتكار. بالنسبة لي، لن يزعجني أن أكتب مرة ثانية بالشكل الكلاسيكي إن قدرت بأنه سيجعل عملي أكثر تأثيراً.
لكل منا امتيازه
ألا يخالجك الشعور أحياناً أنّ الثقافة البصرية بمثابة لص يحاول سرقة امتيازك وجمهورك؟
- كلا، أبداً. فلكل منهما امتيازه الخاص وأيضاً جمهوره. الثقافة البصرية في أساسها شكل من أشكال الرواية. كما إنها عاشت لزمن طويل تتغذى على الأدب، ولاتزال حتى يومنا تقتبس منه. لكني لم أسمع -على الأقل حتى الآن- بأن فيلماً سينمائياً أو عملاً تلفزيونياً قد تحول إلى رواية!! .

هل أنت ممن يشغلهم الموت أم الحياة؟
- لا يشغلني الموت بل تشغلني الحياة. أكتب لأنني لا أستطيع القبول بفكرة أن أمر في الحياة بشكل عابر. أن يخلد اسمي، أو لا يخلد، هو أمر بيد الأجيال والزمن اللذين سيمتحنان معاً ما كتبت ويقرران مصيره. لذلك فما يشغلني الآن وأؤمن أنه بيدي، هو أن أكتب، لا لأخلد اسمي بعد الموت. بل لأصنعه طالما أنا على قيد الحياة.