حديث - ميكايل هانيكه، ترجمة - أمين صالح:
* أصعــب جــزء فــي مهنتـــك كمخـــرج سينمائي، والأكثر مشقة، هو على الأرجح محاولتك التحكم في أعصابك وعدم الشعور بالتوتر والعصبية عند استيقاظك من النوم صباحاً. الشيء الصعب هو أن تكون جاهزاً ومستعداً قبل التصوير، هذا يشبه موقف الممثل قبل لحظات من دخوله خشبة المسرح، فالممثل عادةً يكون في غاية التوتر أثناء انتظاره في الكواليس، وما إن يدخل حتى يتكثّف تركيزه كلياً على الأداء. إنه ذلك الضغط المستمر الذي تشعره يومياً، والخوف من أنك سوف لن تكون قادراً على إنجاز العمل بنجاح وبلوغ ما تبحث عنه. لكن بخلاف ما يحدث في المسرح، حيث يمكنك، إن أخفقت في شيء، أن تعود في اليوم التالي وتحاول من جديد. في العمل السينمائي لا يتوفر لك هذا الترف. إنك تصور مشهداً، وإذا اتضح في ما بعد أنه لا يتوافق مع ما كنت تريده، فإنك تضطر إلى تجاوز ذلك، لأنه يتعين عليك أن تصور مشهداً مختلفاً في اليوم التالي. هذا أحد العوائق في عملية صنع الأفلام قياساً إلى المسرح والأوبرا.
هناك قصة عظيمة عن إنجمار بيرجمان. عندما يصور فيلماً يشترط وجود مرحاض قريب من الموقع لأنه يكون في حالة عصبية ومتوترة إلى حد أنه يحتاج إلى الذهاب إلى المرحاض مراراً. لا أعرف مدى صحة هذه القصة، لكنني لا أستبعد حدوثه.
* أعتقد أن الأذن أكثر حساسية من العين. أحياناً عندما أنظر إلى مشهد ما، فإن آلاف التفاصيل تصرف انتباهي وتحيّرني. لكن حين لا أنظر، فإنني أسمع في الحال إن كان ثمة خطأ في الصوت، أو إذا قال أحد شيئاً لا يبدو مناسباً. خلال اشتغالي في المسرح كمخرج طوال سنوات عديدة، كنت في إدارتي للممثلين أثناء البروفات، في بعض الأحيان، أنكس رأسي وأحدّق في الأرض، ومن خلال الإصغاء بهذه الطريقة أستطيع أن أبدي ملاحظاتي بشأن الأداء بشكل أفضل.
* أظن أن من المهم للمخرج السينمائي أن لا يتأثر بالآخرين، وأن يجد لغته الخاصة. كفنان، توازنك الفني هو جوهرياً النتيجة لكل الأفلام التي شاهدتها، وكل الكتب التي قرأتها. ويتعيّن عليك فحسب أن تحاول فعل ما ينبغي عليك أن تفعله بدلاً من أن تتساءل طوال الوقت عما سيفعله المخرج الفلاني بهذا المشهد لو كان مكانك.
*إذا شرحت أحداث الفيلم بنفسي، وقدمت لهم تأويلي الخاص، فإن هذا سوف يقلل آلياً من قدرة المتفرجين على إيجاد إجاباتهم الخاصة بهم. أفلامي هي قرابين، أقدمها داعياً المتفرج أن يتعامل معها، يفكر فيها، يتأملها، وأن يجد أخيراً إجابته الخاصة. أيضاً أعتقد أن المبدع لا يعرف دوماً بالضرورة ما يقصده وما المعنى الكامن وراء عمله. شخصياً، تدهشني الأطروحات والكتب التي أقرأها عني وكلها تزعم إنها تكشف ما أردت أن أعبر عنه في أفلامي.
أنا أعتقد بقوة أنه سيكون من غير المثمر، بالنسبة للجمهور، إذا بادرت بالإجابة على الأسئلة التي أطرحها في أفلامي، عندئذ لن يتعين على أحد أن يفكر في الأسئلة.
أحاول أن أبني كل أفلامي بطريقة تجعل كل متفرج يبني فيلمه الخاص. ليس هناك أكثر إملالاً من فيلم يجيب فوراً على كل سؤال يطرحه، الفيلم الذي تنساه مباشرة بعد مغادرتك صالة السينما.
*لا أظن إني متشائم أو كنت يوماً إنساناً متشائماً. لو كنت كذلك لما حققت غير الأفلام الترفيهية، لأنني عندئذ سوف أسلّم بأن الناس لا يهتمون، وليسوا أذكياء بما يكفي لأن يرغبوا في التعامل مع الأسئلة التي أطرحها في أفلامي. بهذا المعني، أظن أن كل فنان هو متفائل بالضرورة، وإلا لما شعر بدافع لأن يطرح الأسئلة ولأن يتواصل مع جمهوره. المتشائم سوف يقول ببساطة: لا جدوى من أي شيئ، لذا لن أفعل شيئاً.
*كمخرج، أنت تستمتع باللهو بعناصرك، بتلك الإحالات والتكرارات والتلميحات والإشارات الضمنية.
كمتفـــرج وقارئ، أميل إلى الأفلام والروايات التي تفضي بي إلى تأمل ما شاهدته وقرأته. أظن أن عليك أن تحقق أفلاماً بطريقة تجعل المتفرج يكتشف شيئاً جديداً فيها كلما تكررت مشاهدته للفيلم، وإلا فإنه يموت. أنا شاهدت فيلم تاركوفسكي «المرآة» 25 مرةً على الأقل، وفي كل مرّة أكتشف شيئاً جديداً.
* إذا أنت مخرج سينمائي يحقق اليوم أفلاماً تتعامل مع واقعنا المعاصر، فعندئذٍ يتوقعون منك، على نحو آلي، أن تتحدث بجدية عن المجتمع الذي تعيش فيه. وأنت، بطريقة آلية، سوف تمس مواضع فجة لا تستطيع أن تعالجها أو تعدلها. وأنت لا تستطيع أن تتجنب ذلك. القصد هنا أنك لا تسعى إلى استغلال ذلك بل تتشبث بما يثير اهتمامك، رؤيتك.
* في الكثير من أفلامي تحدثت عن دور الميديا في مجتمعنا، ليس فقط لأنها تبدو مهمة نظرياً بل بالأحرى لأنني جزء من المنظر الطبيعي الذي تشتمله الميديا: إنها تمسني، وجزء منها يثير غضبي، ولهذا السبب أرغب في التعامل معها. الأفلام النظرية هي مضجرة جداً، والأفلام ذات النوايا الطيبة هي حتى أكثر إملالاً.
* السبب في أن الكثير من أفلامي فرنسية، لغةً وبيئةً، أنني درست اللغة الفرنسية في المدرسة. آنذاك كانت فرنسا تمثّل الفتنة والجاذبية لجيل من المثقفين الشبان، كانت موضع رغباتنا. آنذاك كان عصر الوجودية والموجة الجديدة. الآن، كل شخص يوجّه بصره نحو أمريكا.
في الواقع، عملي في فرنسا كان ثمرة تعـــاون تصادفـــي.
الممثلـــة جولييــت بينوش شاهدت أفلامي النمساوية فاتصلــت بــي راغبــة في التعاون في ما بيننا، مقترحة العمل معاً في فيلم، وكان «شفــرة مجهولــــة» Code Unknown أول مشروع لنا، وكان بداية تعاون ناجح ومثمر.
أستطيــع الكتابة باللغة الألمانية فقـــط. ومنــذ أن بدأت في تحقيق الأفلام فــي فرنسا، عملت مع مترجم واحد. هو يكتب النسخة الأولى من الترجمة، ونقوم معاً بتنقيحها. لغتي الفرنسية ليست جيـــدة بما يكفي للحكم على الحوار.
* الحصول على الجوائز الفنية أمر مبهج. ومن يتظاهر بأنه لا يستمتع بالفوز لابد أنه يمزح. بالنسبة لي، الشيء الأكثر أهمية لإحراز الجوائز هو أنها تمنحك المزيد من الفرص، وتسهّل لك تحقيق فيلمك التالي.
* لا أعرف حقاً لم أصنع أفلاماً.. ربما لأنني لا أحسن فعل شيء آخر.
المصدر:
أقوال المخرج مترجمة من مقابــلات متعــددة أجريــت معـه بين عامي 2012 و2013.