أوكرانيا - د.علي الركابي:
أمي... أعظم كلمة عرفها التاريخ، صغيرة وقليلة بالحروف ولكنها كبيرة المعنى, كلمة «أمي» أجمل وأنعم كلمة ولفظ يخرج من شفتاي كلما أحسست بالخوف أو بفقدان شيء ما.
كم كانت تلك أيام جميلة وذكرى لا تنسى وناقوس يدق في عالمي الرائع والمبهج، يا إلهي، أيعقل أن أنسى أمي؟؟؟... لا وألف لا، فكيف أنسى كل حب وحنان صدر من قلب صاف ومنبع عذب، وكم من أيام كانت بعيدة جداً عني، ولكنها في نفس الوقت أقرب إلى فؤادي أكثر من أي شيء...
أمي...أرغب أن أكتب عنك ...فتخذلني الحروف...تخونني الكلمات وتفر مني أسمى العبارات الوصف تتضاءل أمامك....أأصفك بالعظيمة؟ أم بالرائعة ؟ أم بالمثالية ؟ وكلها معان لا توفيك حقك لأنك أكبر من ذلك بكثير...يا نخلةً وارفة الظلال...يا نبعاً من الحنان والأمان.. وحقك أنك الأمان الذي لا ينضب... يا شمعة تحترق في صمت لتنير لنا الدرب.
في حياته أحداث كثيرة، بعضها حلو وبعضها مر، وتتفاوت تلك الأحداث فيما بينها حلاوة ومرارة، وقد تنسى رغم هذا وذاك بأحداث جديدة وهكذا هي حال الدنيا حتى يرحل ذاك الإنسان بدوره عن الحياة، غير أن تفاوت الحلاوة والمرارة يضمحل و يتلاشى عند عتبة الموت عندما ينعى إليك إنسان عزيز كان بالأمس القريب يتحرك ويشاركك آمالك وآلامك ويقاسمك أفراحك وأحزانك، بل أحياناً يفرح لك أكثر مما تفرح أنت لنفسك ويحزن لأجلك أكثر مما تحزن أنت، ولم أجد في الدنيا كلها رغم كثرة الأصدقاء والأحباب والمعارف من يمكنه فعل ذلك أحسن من الأم، الأم الحنون التي ليس لها أعز من نفسها كابنها، فلذة كبدها.
الأم التي تراك «صغيرها» حتى وإن بلغت من العمر الكهولة أو الشيخوخة، تراك وليدها وأنت أباً لنصف دستة من البنين والبنات، تخاف عليك نوائب الدهر وتخشى عليك من البرد، وتراها تراقب ملامح وجهك لترصد أية مسحة حزن أو لمحة هم أو تتصنت لكلامك مدققة في نبرة صوتك لعلها تكتشف «نغمة» غير عادية لتسألك بحرقة: «ما بك يا بني؟» وإنك مهما حاولت طمأنتها أو حاولت مخادعتها بهدوئك رأفة بها لكبر سنها أنك بخير فإنك لن تستطيع؟ لأن قلب الأم حساس وعينها لماحة تلتقط كل إشارة مهما كانت ضئيلة خفية ... هكذا أكتب عنها.
الأم التي تتقاسم الحياة نداً عنيد مع زوجها الرجل ليصنعا سوياً مجتمعاً بشرياً يمضون به إلى حيث يتعايش الناس وهي ذاتها الأم التي دحيت تحت أقدامها الجنة وهي أمانة أوكلنا عليها من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وصية رسول قد خلت من قبله الرسل تناثرن من فيضه الرحمة، إنها الأم التي هي مدرسة إن أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق نعم زايها السادة هي المرأة التي تارة تكون الابنة والأخت وتارة هي الزوجة وألام ، وأني مضطر لمقالتي كمن يضطر إلى الحرمات ولكنه غير باغٍ فاسوق تلك الكلمات لأن الحياة تمضي بنا إلى واقع تتقالب فيه الموازين وتتهالك عنده القيم.
فالأم التي حملت وليدها تسعاً مغبرات وتصاغرت عنده عشراً معسرات ولكنه حينما اشتد عوده وتهادى بنفسه الرشد بات لا يبحث عن برٍ لامه وأبيه يقاسم وإياهما الهموم سوياً بل أخذ يبحث عن خلٍ يأنسه ملياً ويلقي بأمه وأبيه حينما أصبح الشيب عندهم أمراً مقضياً وتغالب عليهم الكبر عتياً إلى قارعة النسيان ويستخلفهما بزوجة لا يرى من تقاسيم الحياة إلى محرابها ولا يستدل على طرائق العيش إلا برضاها فتلك هي الأم التي بذلت بالأمس القريب كل ما تستطاب فيه الحياة من صحة ومال واقتاتت كل شيء لوليدها قربان لبسمة تستدل من خلالها على معاني السعادة وعلينا أن نعود بالتاريخ إلى عصور خوالي أدبرت لنا فيها قصصا بلغت أطناباً من المعاني لعلها تحاكي ضمائر بعض الذين قد تكون الغريزة أغفلتهم قبل أن تمضي بهم إلى قاع جهنم يقال إن هنالك شخصاً دفعته مكائد الشيطان المتلبس بزوجته الشريرة رمى بوالدته التي تتحللت بها الدنيا وتخاوى بها الجسد إلى خزائن الدار المتروكة ولما حل عليها الشتاء بخيوطه القارصة وريحه الصرصر أمر ابنه الصغير أن يعطي لجدته ثوباً قديماً تستتر فيه بقايا جسد خاوي فجلب الصغير نصف الثوب وأخبر أبوه أنه ترك له النصف الثاني حين ما تنكسر به الحياة ويبلغ ما بلغت به جدته أنه القصاص ومن كان بادياً فهو اظلم أتمنى على كل ولد وزوجته التي أحياناً كثيرة تقف خلف متاريس الرذائل وحبال الخطايا التي تدفع الابن لعق والديه أن تصحوا من غفلتها لأن الأمر إذا قضي فلابد أن يكون القصاص هو الفصل فالعين بالعين والسن بالسن لعلها تدرك يوماً عبساً قمطريراً فقضاء الله أن لا نعبد إلا إياه وبالوالدين إحساناً وأن نهبهما الحياة الكريمة مثلما وهبونا الكبرياء وأن لا نجعلهما ضحية لنار الدنيا ونحن متيقنون أنهما سلاطين الجنة يوم الميعاد وختاماً علينا جميعاً أن نستدل في برهم بالثلاث المحمديات أن أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبيك وأن يعود من تستغفله الدنيا إلى مرضاة الله بهما.(1)
أكبر وأنا عند أمي صغير وأشيب وأنا لديها طفل هي الوحيدة التي نزفت من أجلي دموعها ولبنها ودمها نسيني الناس إلا أمي عقني الكل إلا أمي تغير علي العالم إلا أمي.. الله يا أمي: كم غسلت خدودك بالدموع حينما سافرت! وكم عفت المنام يوم غبت! وكم ودعت الرقاد يوم مرضت.. الله يا أمي: إذا جئت من السفر وقفت بالباب تنظرين والعيون تدمع فرحاً وإذا خرجت من البيت وقفت تودعينني بقلب يقطر أسى.. الله يا أمي: حملتني بين الضلوع أيام الآلام والأوجاع ووضعتني مع آهاتك وزفراتك وضممتني بقبلاتك وبسماتك.. الله يا أمي: لا تنامين أبداً حتى يزور النوم جفني ولا ترتاحين أبداً حتى يحل السرور علي إذا ابتسمت ضحكت ولا تدرين ما السبب وإذا تكدرت بكيت ولا تعلمين ما الخبر تعذرينني قبل أن أخطئ وتعفين عني قبل أن أتوب وتسامحينني قبل أن أعتذر.. الله يا أمي: من مدحني صدقته ولو جعلني إمام الأنام وبدر التمام ومن ذمني كذبته ولو شهد له العدول وزكاه الثقات أبدا أنت الوحيدة المشغولة بأمري وأنت الفريدة المهمومة بي.. الله يا أمي: أنا قضيتك الكبرى وقصتك الجميلة وأمنيتك العذبة تحسنين إلي وتعتذرين من التقصير وتذوبين علي شوقاً وتريدين المزيد يا أمي: ليتني أغسل بدموع الوفاء قدميك وأحمل في مهرجان الحياة نعليك يا أمي: ليت الموت يتخطاك إلي وليت البأس إذا قصدك يقع علي: نفسي تحدثني بأنك متلفي روحي فداك عرفت أم لم تعرف يا أمي كيف أرد الجميل لك بعدما جعلت بطنك لي وعاء وثديك لي سقاء وحضنك لي غطاء؟ كيف أقابل إحسانك وقد شاب رأسك في سبيل إسعادي ورق عظمك من أجل راحتي واحدودب ظهرك لأنعم بحياتي؟ كيف أكافئ دموعك الصادقة التي سالت سخية على خديك مرة حزنا علي ومرة فرحا بي لأنك تبكين في سرائي وضرائي؟ يا أمي أنظر إلى وجهك وكأنه ورقة مصحف وقد كتب فيه الدهر قصة المعاناة من أجلي ورواية الجهد والمشقة بسببي يا أمي أنا كلي خجل وحياء إذا نظرت إليك وأنت في سلم الشيخوخة وأنا في عنفوان الشباب تدبين على الأرض دبيباً وأنا أثب وثباً يا أمي أنت الوحيدة في العالم التي وفت معي يوم خذلني الأصدقاء وخانني الأوفياء وغدر بي الأصفياء ووقفت معي بقلبك الحنون بدموعك الساخنة بآهاتك الحارة بزفراتك الملتهبة تضمين تقبلين تضمدين تواسين تعزين تسلين تشاركين تدعين يا أمي أنظر إليك وكلي رهبة وأنا أنظر السنوات قد أضعفت كيانك وهدت أركانك فأتذكر كم من ضمة لك وقبلة ودمعة وزفرة وخطوة وجدت بها لي طائعة راضية لا تطلبين عليها أجراً ولا شكراً وإنما سخوت بها حباً وكرماً .....
أنظر إليك الآن وأنت تودعين الحياة وأنا أستقبلها وتنهين العمر وأنا أبتدئه فأقف عاجزاً عن إعادة شبابك الذي سكبته في شبابي وإرجاع قوتك التي صببتها في قوتي أعضائي صنعت من لبنك ولحمي نسج من لحمك وخدي غسل بدموعك ورأسي نبت بقبلاتك ونجاحي تم بدعائك أرى جميلك يطوقني فأجلس أمامك خادماً صغيراً لا أذكر انتصاراتي ولا تفوقي ولا إبداعي ولا موهبتي عندك لأنها من بعض عطاياك لي أشعر بمكانتي بين الناس وبمنزلتي عند الأصدقاء وبقيمتي لدى الغير ولكن إذا جثوت عند أقدامك.....
فأنا طفلك الصغير وابنك المدلل فأصبح صفراً يملأني الخجل ويعتريني الوجل فألغي الألقاب وأحذف الشهرة وأشطب على المال وأنسى المدائح لأنك أم وأنا ابن ولأنك سيدة وأنا خادم ولأنك مدرسة وأنا تلميذ ولأنك شجرة وأنا ثمرة ولأنك كل شيء في حياتي فائذني لي بتقبيل قدميك والفضل لك يوم تواضعت وسمحت لشفتي أن تمسح التراب عن أقدامك. رب اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيراً.(2)
أريد أن أختم كلامي وأقول:
لقد فقدت في حياتي أشخاصاً كثيرين كالأب والأخت والأخ وكثيراً من الأقارب، ورغم مرارة فقدان الأحبة فإنني لم أحزن كحزني الشديد على أمي لما ماتت حينما كنت في الغربة ولحد الآن، خاصة وأن ذكرى وفاتها من السنة الأولى يمر علي هذه الأيام إن لموت الأم وقعاً خاصاً على القلب وإن الكلمات مهما كانت معبرة وصادقة لن تؤدي المعاني التي تدور في ذهني عن موت أمي! إن لموت الأم بعداً لا يمكن تقديره أو وصفه بالكلام، إنه بعد نفسي عميق الأغوار تتلاشى الكلمات عند عتبته وتضمحل العبارات ولا تبقى سوى العبرات!
وأقول أيضاً: آنت أعظم مدرسة ... أنت مدرسة في العطاء والإيثار ونكران الذات والإيمان والتفاؤل وفعل الخير ومساعدة الجميع ...
شعلة من الذكاء والفطنة و سرعة البديهة أنت.....بحر من الحب والحنان والوفاء أنت......أمي...أنا لا أملك شيئاً....فكل نجاح حققته أو أحققه لنفسي أو مع غيري هو لك ......أنت صاحبته....أنت زرعت بذوره وتعهدتها بالسقي والرعاية حتى أينعت.......... فأنا منك وإليك..
أمي...أقبل رأسك و يديك...
المصادر: 1- هيام راضي الجبوري. الأم بين الجنة والنار. جريدة الزمان العراقية ، بغداد ، 20/1/2014
2- الدكتور الشيخ عائض القرني. روعة الأم وأهميتها. مقال منشور على الانترنت.