قال علماء ودعاة إن «الزهد هو ترك ما لا ينفع في الآخرة، فهو قصر الأمل في الدنيا، وعدم الحزن على ما فات منها، أما الورع فهو ترك ما تخاف ضرره في الآخرة، وفي هذا الصدد يقول الله تعالى في كتابه الكريم «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين»، مشيرين إلى أن «الأخذ من طيبات الحياة الدنيا على قدر الحاجة لا ينافي معنى الزهد، فقد كان من الصحابة من كانت لديه الأموال الكثيرة، والتجارات العديدة، كأمثال أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم أجمعين، لكن هذه الأموال كانت في أيديهم، ولم تكن في قلوبهم، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم في باب الصدقة، والإنفاق في سبيل الله، كمطر الخير الذي يعطي ولا يمنع».
واستشهد العلماء بحديث الرسول الكريم، عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس».
ولا شك في أن لنيل محبة الله ثم محبة الناس سبيل وطريق، من حاد عنه، خسر تلك المحبة، ومن سلكه فاز بها، ولذلك أورد الإمام النووي رحمه الله هذا الحديث، ليكون معلماً ومرشداً، وليبين لنا الكيفية التي ينال بها العبد محبة ربه خلقه.
وأشار العلماء إلى أن «محبة الخالق للعبد منزلة عظيمة، فهي مفتاح السعادة، وباب الخير، ولذلك فإنها لا تنال بالأماني، ولكنها تحتاج من العبد إلى الاجتهاد في الوصول إلى هذه الغاية، وقد جاء في الكتاب والسنة بيان للعديد من الطرق التي تقرب العبد من مولاه وخالقه، وكان من جملتها ما أرشد إليه النبي في الحديث بالتخلق بالزهد».
وحقيقة الزهد أن تجعل الدنيا في يدك لا في قلبك، فإذا كان العبد مقبلاً على ربه، مبتعداً عن الحرام، مستعيناً بشيء من المباحات، فذلك هو الزهد الذي يدعو إليه الحديث، وصدق بشر رحمه الله إذ يقول: «ليس الزهد في الدنيا تركها، إنما الزهد أن يزهد في كل ما سوى الله تعالى، فهذا سيدنا داود وسيدنا سليمان عليهما السلام قد ملكا الدنيا، وكانا عند الله من الزاهدين».
من جهته، قال الداعية الشيخ محمد حسان «تنوعت عبارات السلف في التعبير عن الزهد، وأجمع تعريف هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال «الزهد هو ترك ما لا ينفع في الآخرة». ولقد وعى سلفنا الصالح تلك المعاني، ووضعوا نصب أعينهم قول الله تعالى: «يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور»، فهانت عليهم الدنيا بكل ما فيها، واتخذوها مطية للآخرة، وسبيلاً إلى الجنة.
وأضاف الشيخ حسان «كان الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز ينام على فراش الموت، ليدخل عليه ابن عمه مسيلمة بن عبدالملك ويقول له: يا خليفة المسلمين ألا توصي لأولادك بشيء من المال، فقد اقفرت أفواه بنيك، فيقول له عمر بقوة عجيبة وصدق بالغ وهو على فراش الموت: وهل تعلم أني أملك شيئاً حتى أوصي لأبنائي به، أم تريد أن أترك لهم مالاً من مال المسلمين؟ لا والله لا أعطيهم مالاً من أموال المسلمين، فأولادي عندي أحد رجلين، أما أن يكونوا صالحين، فالله يتولى الصالحين، وأما أن يكونوا غير صالحين فلا أترك لهم أبداً ما يستعينون به على معصية الله، وأسأل عنه أنا يوم القيامة وأنا بين يدي الله».
وأضاف الشيخ حسان «جاء المصطفى سائل ليسأله الصدقة، فأعطاه النبي غنماً بين جبلين، وساق الرجل الأغنام، وذهب الى قومه ليقول لهم: «يا قوم اسلموا، فوالله أن محمداً يعطي عطاءً من لا يخشى الفقر»، وهذا أبرز مثال على الزهد فكان الرسول يزهد في الدنيا ليس عن فقر أو عجز، ولكن عن تربية وتعليم وورع وتقوى، ولذلك كان المصطفى أجمل الناس وجهاً، وأجمل الناس ثوباً، وأجمل الناس طيباً وعطراً، ومع ذلك كان أزهد الخلق».
ثم يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم السبيل إلى محبة الناس فقال: «وأزهد فيما عند الناس يحبك الناس»، ومعنى ذلك ألا يكون القلب متعلقاً بما في أيدي الناس من نعيم الدنيا، فإذا فعل العبد ذلك، مالت إليه قلوب الناس، وأحبته نفوسهم.
والسر في ذلك أن القلوب مجبولة على حب الدنيا، وهذا الحب يبعثها على بغض من نازعها في أمرها، فإذا تعفف العبد عما في أيدي الناس، عظم في أعينهم، لركونهم إلى جانبه، وأمنهم من حقده وحسده.
من جهته، قال الشيخ عبدالله بن ناصر السلمي: «دخل عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه يوماً على أصحابه فرأهم يستكثرون من العبادات، فقال لهم «لأنتم اليوم أكثر عبادة من صحابة رسول الله، وهم كانوا خيراً منكم»، قالوا: «لما رحمك الله يا أبا عبدالرحمن؟»، قال: «لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة»، والزهد في الدنيا ليس معناه أن تتخفف من الثياب الجميلة أو أن تلبس الثياب الرثة، لكن الزهد في الدنيا هو أن تنزع قلبك لله سبحانه وتعالى من الأغلال والحقد وظلم الآخرين، ولهذا كان الرسول الكريم يقول في دعائه «اللهم أسألك سخيمة قلبي»، أي انزع يا الله سخيمة قلبي ألا أظلم أحداً من خلقك».