كتب - أمين صالح:
«ذلك الشيء الغامض الخاص بالرغبة» That Obscure Object of Desire، آخر أفلام المخرج الإسباني لويس بونويل، وهو الفيلم الرابع والثلاثين في مسيرته السينمائية، نفذه وهو في السابعة والسبعين، وعنه حاز على جائزة نقاد أمريكا كأفضل فيلم وأفضل مخرج.
الفيلم مأخوذ عن رواية الكاتب بيير لوي «المرأة والدمية»، التي نشرت للمرة الأولى في 1898، وصارت مادة رائجة للسينما، حيث تحولت إلى الشاشة عدة مرات، بدءاً من سنة 1920 كفيلم صامت حمل العنوان نفسه. كما حولها المخرج الشهير جوزيف فون شتيرنبرغ في 1936 إلى فيلم بعنوان، فرضته شركة الإنتاج، وهو «الشيطان امرأة».
هنا يأتي بونويل ليوظف المادة الروائية في طرح رؤية تلخص اهتمامه الخاص بما تجلبه «الفتشية» (تركيز الشهوة الجنسية على جزء من الجسد أو على شيء يخص الآخر) من لذة وخيبة أمل. إضافة إلى تلاعبه بأكثر المظاهر خسة في الرواية لصالح الدعابة السوداء التي يفضل بونويل معالجة موضوعاته من خلالها.
إنه عن رجل أعمال فرنسي يدعى ماثيـــو (فرناندو ري) يريد أن يتخذ من الراقصة الأسبانية الشابة، كونشيتا، عشيقةً له، لكنها عنيدة وصلبة وجامحة، لذلك تستعصي عليه، فتظل موضع رغبته المنحرفة، وأمنيته الوحيدة أن يمتلكها.
هذا الفيلم لا يعول على الرؤى التخيلية أو الحلمية المتداخلة مع مظاهر الواقع، كما في أفلام بونويل السابقة، ولا يرتكز على الصور السوريالية، بل يظهر عالماً يبدو حقيقياً (باستثناء قيام ممثلتين بتأدية شخصية واحدة)، ويعتمد في بنائه على سلسلة من الصور الموجزة التي تركز بؤرتها على المحاولات اليائسة التي يقوم بها رجل الأعمال العجوز لإكمال علاقته بالمرأة الشابة كونشيتا (تؤدي الدور ممثلتان: أنجيلا مولينا وكارول بوكيه).. من الممكن هنا افتراض أو استنتاج أن الوجود المزدوج لكونشيتا (السيدة والعاهرة) ما هو إلا اختراع من ذهن أو مخيلة العجوز، بما أن القصة بأكملها تنمو من ما يتذكره.
الأجزاء عبارة عن مشاهد يرويها العجوز لمجموعة من المسافرين في قطار عائد إلى باريس، بعد أن شاهدوه يفرغ دلواً من الماء على رأس كونشيتا. هنا يتضح أنه لا يريد أن ينتهك عذرية كونشيتا المفترضة، بل أيضاً يريد أن يمارس ساديته عليها.
المسافرون هم مجموعة من الأشخاص الذين يتسمون بالغرابة ويتميزون بالفضول، من بينهم قزم مرح يتضح أنه طبيب نفساني يجري تحليلاً مفصلاً عن حالة العجوز من أجل أن يكتسب معرفةً بذاته.
من خلال الفلاش باك، نعلم أنه التقى بكونشيتا للمرة الأولى أثناء عملها كخادمة في باريس، وفوراً افتتن بها. هو رتب موعداً معها، لكن اللقاء لم يتم بسبب اختفائها في اليوم التالي لسبب يتعذر تعليله.. ومن هنا تبدأ سلسلة من الأحداث الغريبة التي تؤلف هيكل الفيلم. في ما بعد، يلتقي بها مرة أخرى، عن طريق الصدفة، عندما يحاول الإرهابيون الشبان سلبه، ويصبح ممسوساً بها أكثر.
الحاجز الذي يفصل العجوز عن غاية رغبته يتخذ أكثر من شكل: ميتافيزيقياً، هناك الانتقالات اللامنطقية، كما في الأحلام، حيث تتوارى كونشيتا وتختفي باستمرار، وتظهر على نحو غير متوقع في منطقة أخرى من عالم العجوز. كونشيتا تبدو قادرة على التنقل عبر الزمن والظهور فجأة في أماكن مختلفة من دون عون من أحد. ومادياً، من خلال البوابات الحديدية والأسيجة التي تشكل عائقاً وحاجزاً يحول دون تحقيق العجوز لرغبته. إنه يواصل الجري خلفها لكنه لا يصل إليها، يلمسها لكنه لا يمتلكها.
في البداية، في لقاءاتهما الأولى، كونشيتا تظهر نفسها كإنسانة بريئة وساذجة، لكن يتضح أخيراً أن اهتمامها بالعجوز هو جزء من لعبة مدروسة ومحكمة تهدف إلى الهيمنة الجنسية، وهي عاقدة العزم على الفوز في اللعبة.
محــاولات العجــوز المتواصلــة، اللانهائيـة، واليائسة لممارسة الجنس معها تبوء بالفشل بفضل مجموعة مربكة من الخطط التي ترسمها هي لمراوغته وإبعاده.. ففي أحد المشاهد تطلب منه أن يشتري لها بيتاً، وهناك فقط، في ذلك البيت، سوف يحظى بها وستكون له عشيقة. وهي بدهائها تحصل على البيت، بينما هو لا يحصل على أي شيء. إنها تتظاهر بالاستسلام، لكنها تعود وتنكر وتكذب وتحتال وتتلاعب به، وتنصب له المزيد من الشراك وأشكال الإذلال.
في خلفية هذه الأحداث الرئيسة، وعلى نحو متقاطع، يصور بونويل المجتمع في حالة فوضى، حيث الجماعات الإرهابية تزرع الرعب وتخلق الفوضى عبر سلسلة من التفجيرات والسرقات وعمليات الخطف.. لكن هذه الأفعال لا تشكل تهديداً خطيراً للبورجوازية – التي يمثلها رجل الأعمال العجوز المعتد بنفسه – بقدر ما هي تصرفات مزعجة تسبب الضيق.. عندما تنفجر سيارة أمام مرأى العجوز، هو يشعر بالانزعاج ويطلب من سائقه أن يسرع وينعطف لأنه تأخر عن موعده. حتى عندما يتواجد أثناء عملية سطو، يقوم بها الإرهابيون، هو ينزعج فحسب.
الحركة السوريالية كانت تسعى إلى تحطيم الحد الفاصل بين عالمي الوعي واللاوعي عن طريق صورها العفوية. هذا المنحى السوريالي نجده جلياً هنا حيث ما دون الوعي يصبح، كما تقول الناقدة جولي أهرنز (Movietone News, Aug.1978): «تجلياً سينمائياً خارجياً للواقع. مع إن هناك احتمال أن العجوز يحلم، إلا أن وضع العجوز برمته يمكن، على نحو قابل للتصور، أن يكون حلماً يجسد خوفه من العجز الجنسي. في هذا الفيلم، لا سبب لدى بونويل لكي يفصل الحلم عن الواقع لأن رغبات العجوز الكامنة تحت الوعي، إضافة إلى مخاوفه، هي مكشوفة في كل لحظة من الفيلم».
في العام 1977 منح مهرجان سان سباستيان بإسبانيا لويس بونويل جائزة «القوقعة الذهبية» تقديراً له ولأعماله السينمائية.