كتب - علي الشرقاوي:
أي سلطة يملكها المكان حتى يسيطر علينا كل هذه السيطرة.
إنها ذاكرة مرحلة الطفولة، ذاكرة أول التعلم ، ذاكرة الفرح الذي اشتعل فينا بحرارة مازالت تدور داخلنا، ذاكرة البراءة المفتوحة على الكون اللانهائي، ذاكرة أول علاقة مع الأحجار والأشخاص والأنفاس والأرواح والأعراس، ذاكرة المكان، هي ذاكرة «الأول»، الأول..الأول، أول كل شيء، أول صوت وأول أغنية وأول خروج من البيت، وأول تعارف بوجوه خارج إطار المنزل.
قال الشاعر أبو تمام:
«نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتي
وحنينه أبداً لأول منزلِ»
من هنا، فنحن دائماً نحنّ للأول، لا من أجل استعادته، إنما بالشعور بالانتماء لهذا المكان الذي تعلمنا منه وتشكلت من خلاله تجاربنا ودائماً ما أقول «لو لم أكن هناك لما وصلت إلى هنا».
شيء عن الباحثة فوزية مطر
فوزية واحدة من الشخصيات النسائية التي ارتبطت بتجربتي الشعرية وتجربتي الحياتية، الوطنية والاجتماعية، فقد تعرفت عليها إبان فترة دراستها في بيروت، ثم بعد ذلك، في طبيعة العلاقة التي كانت تربط أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، وجمعية أوال النسائية، بسبب الترابط الوطني والأيديولوجي بين الاثنين، حيث كانت جمعية أوال، في تصوري، تمثل الامتداد الطبيعي لأسرة الأدباء والكتاب، وعضوات الجمعية كن يمثلن الجمهور الأكبر لنشاطات الأسرة الشعرية والندوات.
وحينما كانت الأسرة في أوج فتوتها وقوتها وعنفوانها، عملت على نقل فعالياتها الشعرية والأدبية إلى خارج المدن، وكنا نأخذ جمهورنا معنا، من عضوات الجمعية النسائية، أوال، إلى القرى في البحرين، منها سنابس، وجدحفص، ودمستان، وقلالي وغيرها، مما يشكل حالة مغايرة لما تعود عليه أهل هذه القرى، التي لم تعرف من قبل، اختلاط الرجال بالنساء في مكان واحد.
وبعد العودة من الفعالية، نقوم نحن بإيصالهن إلى بيوتهن، وأذكر من الشخصيات النسائية الأخرى، كلاً من الدكتورة سبيكة النجار، وصالحة العيسان، بالطبع فوزية مطر، وأذكر أنني تعرفت إلى البيت الذي تتكلم عنه فوزية مطر، من خلال توصليها بنفسي إلى بيتهم، على أساس أنها من أهم الواجبات التي علينا أن نقوم بها، من هنا فإن فوزية مطر -كما قلت- جزء لا يتجزأ من تاريخي الشخصي، و الكتابة عنها هي كتابة عني وعن المرحلة التي عشت، رغم أن كتابها يتحدث عن مرحلة الطفولة، التي انحفرت في الذاكرة.
حق الذهاب
إلى السينما
تقول فوزية مطر في الغلاف الخلفي لكتابها: مازالت ذاكرتي تحتفظ ببعض التفاصيل الطريفة حول تجربتي الشخصية مع العروض السينمائية في ذلك العمر المبكر، تلك التجربة التي لم تتوفر بالنسبة لي على أية متعة تذكر سوى الظفر بحق الذهاب للسينما -مثلي كمثل شقيقي- فحالما يبدأ العرض أشرع في البكاء، إما خوفاً من مشاهد العنف والضرب إن كان الفيلم هندياً، أو خوفاً من مشاهد الطائرات المقاتلة في الأفلام الحربية الأمريكية التي راج عرضها في الخمسينات. كنت أشعر أن الطائرة ستخرج من الشاشة متجهة نحونا فأصرخ باكية. أما إن خلا الفيلم من مشاهد العنف والرعب، فإن رتابة الصوت والصورة تجلب النعاس لعين طفلة صغيرة حان موعد نومها، تخور كافة قواي أمام سلطان النوم بعد فترة وجيزة على بدء الفيلم، فأسند رأسي على ذراع أمنا بنت ربيعة وأغط في نوم عميق لا يقطعه سوى صوتها بعد انتهاء العرض، توقظني زاجرة مستنكرة إصراري على القدوم دون فائدة، فأطالعها بصمت الخائف وأتشبث بيدها في طريق عودتنا عبر الدروب ذاتها.
فوزية مطر والحديث عن جيلنا
كتاب «مرابع الطفولة» للباحثة فوزية مطر، في تصوري الشخصي، أهم كتاب يتكلم عن ذاكرة المكان يصدر في البحرين، كتاب يجرك من أذنك لترى ما رأت، وتسمع ما سمعت، وتتحسس طبيعة الحياة البسيطة التي عاشت، وتتوق مع فوزية كل ما هو رائع وجميل في تلك الأيام التي خرجت عن إطارات الصراعات الطبقية والصراعات الاجتماعية والمذهبية، إنها مرحلتنا التي عشنا، ونحن نفس الجيل.
كتبت في الإهداء «يشرفني أن تجول معي في مرابع طفولتي.. فقد تجد فيها شيئاً من طفولتك» وهذا ما حدث بالضبط، العودة إلى طفولتي عبر مرابع طفولة فوزية مطر..
عندما يتكلم الحجر..
يقول د.عمار بكار «كثير منا يعشق ''ذاكرة المكان''، يحب التاريخ، يريد أن يفهم الروح التي مضت عبر السنين في مدينة أو مبنى أو شارع أو ركن ما، هذا ما يجعل للزمن معناه، ويجعلنا ندرك قيمة الأحداث العظيمة، وحتى تلك اللحظات البسيطة التي نتمنى أن تخلدها الأيام، هناك تطبيق تكنولوجي جديد جعلني فجأة أعيش في لحظات طويلة من الشرود.
كتاب للالتهام الكامل
إن ما قامت به قارئة المكان، فوزية مطر، ليس فقط الحديث عن البيوت والجدران، إنما الروح التي سكنت هذه البيوت ووراء هذه الجدران، الأنفاس التي جعلت من هذا الفريج أو الحي، في قلب المحرق، نابضاً بالحياة ومتدفقاً بالمودة في كل رملة أو حجر أو باب.
«فريج لشيوخ» فريج الحياة
تقول فوزية مطر «أخذني حنين جارف إلى دار الطفولة والصبا بعمق المحرق، إلى بيت العائلة الكبير، هناك بقلب المحرق يقع بيتنا بوسط الجهة الشمالية من «فريج لشيوخ» حي الشيوخ، وقد قرن مسمى الحي بالشيوخ لأنه كان يضم بيوت وملحقات بيوت أبناء الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين الأسبق وبيوت العديد من أحفاده، وتقع جميعها في إطار منطقة متاخمة لبيت الشيخ عيسى بن علي آل خليفة ولمسجده، يقع بيتنا تحديداً على زاوية تبعد بمسافة طريقين عن بيت الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة وبيوت عياله وطريقين آخرين عن بيت الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة وبيوت عياله، فإن قيل حي الشيخ عبدالله بن عيسى دخل بيتنا في حيزه وإن قيل حي الشيخ محمد بن عيسى دخل بيتنا في حيزه، ولعل الجد إبراهيم بن سلمان بن مطر قد اختار ذلك الموقع لبيته وجاهةً وتيمناً بالقرب من كبار شيوخ المدينة.
«براحة الشيخ عبدالله بن عيسى»
تتذكر الباحثة فوزية مطر «براحة الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة «كانت تشدنا في صغرنا خلال الأعياد والاحتفالات، حيث نقف عند سور مجلس الشيخ عبدالله المطل على وسط البراحة ممسكين بالقضبان الحديدية لسياجه متفرجين على «الرزيف»، رقصة العرضة في باحته الأمامية، نرمق باب المجلس الذي سيخرج منه الشيوخ أو نمد أيدينا نحو شجرة ضخمة تلقي بأغصانها على السور محاولين قطف أزهار صفراء كروية الشكل زكية الرائحة لا نكاد نلمسها حتى تتطاير ذراتها الصفراء من بين أصابعنا ناشرة أريجها الفواح في المكان، كنا مغرمين بالوقوف عند النوافذ الخارجية لغرفة طيور «الشواهين» ، وهي صقور تستخدم في صيد الحيوانات برحلات القنص، والمطلة على الطريق الخلفية للمجلس، نشاهد طيور الشاهين مشدوهة بألوان زينتها الزاهية ومظهرها الباذخ يقف كل واحد منها شامخاً مختالاً على دكة هي جزء من جذع شجرة كبيرة، وبقرب الطيور يقف حارسها أو مربيها بمظهره الرسمي المميز».
يقول محمد عبدالقادر الفار وهو يكتب عن معنى الذاكرة «النسيان» إحدى أدوات الوجود الضرورية، ومن المدهش أن تستسلم لما يمكنك أن تسترجعه في لحظة معينة، وقد يبدو لك أنك قادر على استرجاع أشياء محددة فقط، محدودة بهذا الدماغ البشري المعقد، والكن الهش.. وطوال حياتك يتخلخل هذا الصندوق الأسود ويخلط أحياناً بين الأحلام القديمة والوقائع، تدفق وسيل مستمر.. ولكن إلى متى يمكن أن ترافقك الذاكرة.. كيف يمكنها أن ترافقك في عالم غير مادي مثلاً؟، هل النسيان هو لعبة الوجود؟ إلغاء ذاكرة الوعي «الشاهد» على العالم في كل دورة جديدة، ليعيش حيوات ينساها، ويكون دائماً في حالة شهادة على حياة واحدة ينسى غيرها، وينسى كل مشاعر الحب والدفء في حيواته السابقة.. وما أكثر الشهود!!... ولكن بافتراض أن هناك «وعياً شاهداً واحداً» على كل ما في الوجود، كل ما حدث وكل ما خطر، كيف يمكن تصور وجود ذاكرة ذاتية تحيط بذلك «حتى فكرة وجود سجلات محوسبة غير واعية تسجل كل ذلك غير متصورة»، إن الذاكرة المدهشة هي الذاكرة بالمعنى الذاتي لا المعنى الموضوعي، أي أنني لا أعني ذاكرة لا أحد يشهدها.. كصوت يدوي في الفضاء دون وجود كيان واعٍ يسمعه.. ملايين الأجرام السماوية تصطدم وتولد وتموت وتتحرك، لو لم يكن من شاهد عليها، فلا ذاكرة ذاتية لها.. ولكن حتى هذا الاندثار.. هل هو ممكن في وجود فيه شاهد لانهائي على الكل.
شيء من بيت الشيخ إبراهيم بن محمد
تقول الباحثة البانورامية فوزية مطر وهي تتحدث عن بيت الشاعر الكبير الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة «كان بيت الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة من الضخامة والامتداد بحيث يشغل مساحة شاسعة تحيط بها الطرقات من الجهات الأربع، ويتكون البيت من ثلاثة أقسام: المبني الرئيس لسكن العائلة ويتوسطه الحوش الأكبر ويشغل كامل الجهة الشرقية وثلثي الجهتين الشمالية والجنوبية من البيت، ومجلس البيت ويشغل الجهة الجنوبية الغربية بحوشه المنفصل عن باقي البيت ومرافقه الواقعة جهة الشمال وداره الرئيسة الضخمة المليئة بالشبابيك المطلة على الطريق من جهتي الجنوب والغرب، وبوابته التي تتوسط الجهة الغربية مطلة على باحة مربعة تتفرع منها الطرقات. أما القسم الثالث من البيت فيقع في الشمال الغربي وهو مبنى المطابخ بحوشه ومرافقه يفصله عن مبنى السكن دهليز البيت ببوابته المطلة على منعطف الطريق الغربية نحو الشمال، يشغل مكان البوابة حالياً جانب من الجدار الزجاجي بوسط الجهة الغربية لقاعة مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث».
البدعة وعالم الصيف الرائع
تتحدث الباحثة في المكان فوزية مطر عن عالم ربما لا يتذكره إلا من عاشوا تلك المرحلة، مرحلة العلاقات التي لا يخدشها شيء، والبدعة لمن لا يعرفها عبارة عن مقيظ أو مصيف، يقع على الساحل الشمالي من المنامة في شرق اليابور وفي الشاطئ الشمالي المقابل للديه ويتبع حالياً ضاحية السيف شمالي العاصمة، تقول الباحثة «كانت البدعة الأخت التوأم لليابور، يجمعهما امتداد جغرافي واحد للشاطئ الرملي ذاته، ويقع بينهما خط أخضر من المزارع المشرفة مباشرة على شاطئ البحر بتشابك أسيجتها المغطاة بالخضرة المتسلقة الموشاة بالزهور حتى ليخال للعابر بين المقيظين من صوب البحر أنه أمام امتداد لسياج واحد، لكنه ما أن يشارف على البدعة حتى ينفتح أمامه فضاء البحر والرمل باتساعات بيوت المصطافين بعكس بيوت اليابور التي تبعد عن البحر بضعة أمتار لا أكثر».
المعلمات بالثوب النسائي البحريني
عن مرحلة الدراسة الأولى تقول فوزية مطر «التحاقي بالمدرسة بدأ بالمرحلة التمهيدية التي تسبق الدراسة الابتدائية وقد اجتزت المرحلة التمهيدية في مدرسة مريم بنت عمران، ولم يرسخ في ذاكرتي الغضة من معلمات مدرسة مريم بنت عمران أحد أكثر من المعلمة فاطمة عبدالعزيز ومحبتها لي ومواقفها الجميلة والمشجعة من أدائي التعليمي. في ذلك الزمن حافظ عدد من المعلمات البحرينيات على ارتداء الثوب النسائي البحريني في ميدان العمل التعليمي بالمدرسة، كانت المعلمة فاطمة عبدالعزيز ترفل في المدرسة بثوبها البحريني على مختلف أشكاله، بسيطاً كان وبلون واحد أو ملوناً أو «مكوراً» «مطرز بخيوط الذهب « ولعل ذلك المظهر المماثل لمظهر أمي في البيت كان واحداً من دواعي محبتي وتعلقي بها».
عذاري من وجهة نظر طفلة
تقول فوزية مطر وهي تتحدث عبر كاميرا الذاكرة: كان الوالد قد عودنا «سلمان ، فوزية ، حمد وأحياناً الصغير نبيل» على زيارة بركة عذاري وسابها، برفقة صديق عمره العم عبدالله بن صالح بن هندي رحمهما الله صباح كل جمعة خلال أشهر الربيع والصيف، كان يوم الجمعة هو يوم الاستحمام الرسمي على وجه أسبوع جديد، وفيه يحرص الوالد على أن نتلقى حماماً معتبراً بالصابون والشامبو في ساب عذاري، كنا نفرح بتلك الرحلة الأسبوعية البعيدة والحافلة بكل ما هو جديد وممتع ومبهر بعيداً عن روتين الحياة اليومي بين جدران البيت ودروب الحي، نصل عذاري صباحاً فتلف السيارة بنا حول بركتها الواسعة ونشاهد الكثيرين يقفزون بكل خفة إلى مياهها العميقة، يوقف الوالد السيارة في جهة قريبة من الساب مذكراً في كل مرة ومحذراً أن البركة مخصصة للكبار فقط، وتقول عن تجربتها في ساب عذاري «كنت أشعر بخوف شديد حينما تتجمع «العفاطي» صغار السمك حول قدمي وأخاف أكثر من حركة «الشلة» نبت الساب الأخضر عند أطراف جدرانه، لكن لابد من مقاومة الخوف وعدم إظهاره في حضرة الوالد الذي يلاحظ هلعي فيردد مكمناً ومشجعاً: هذه أسماك صغيرة ضعيفة أنت أقوي منها وقدمك أكبر منها. وكلما انتهى الوالد من أحدنا أوقفه على حافة الساب وألبسه ملابسه. بعد ذلك يدخلنا السيارة وينزل مع العم عبدالله للسباحة في البركة الكبيرة. نتوجه بعد ذلك للبساتين المحيطة بعذاري ولا نعود للبيت ضحى كل جمعة إلا ونحن محملين بما لذا وطاب من فواكه الموسم وثماره».
في تصوري إن كتاب فوزية مطر «مرابع الطفولة - ذاكرة طفولة شخصية» من أهم الكتب البحرينية التي تتكلم عن ذاكرة المكان، ذاكرة الفريج، ذاكرة البراءة والعلاقة الاجتماعية التي ربطت البحرينيين بصورة لم أرها في أية كتابات سابقة، ولذلك أشعر أن هذا الكتاب، ليس للقراءة فقط، إنما يحتاج إلى الالتهام، بمعنى أن كل صفحة من الصفحات التي قرأت، هي بمثابة حياة تتكلم.