كتب - علي الشرقاوي:
في الوقت الذي كنت أنسل فيه من فريج الفاضل، معتمراً دفنة الحورة وأشواقها إلى الخروج بشكل أكثر اتساعاً إلى البحر؛ كان فريج الفاضل، الفريج الذي تشكل فيه الحس الأول والتجارب الأولى والبيت الأول، وأول الأصدقاء، كان هذا الفريج المتآمر مع المحبة يبدأ في تشكيل، تجارب جميلة وناضجة وبصمت وبهدوء، لتنشر أوراقها في كل مكان. وضمن هذه التجارب الطازجة والغنية بملوحة البحر وصيف البحرين الحار، تجربة الصديق الروائي وكاتب الأطفال والمترجم والإداري الناجح، عبد القادر عقيل، الصوت الصارخ في البرية « استغاثات العالم الوحش».
الفتى المشتعل بالحلم
منذ أن عرفناه في صباه، كان عبد القادر عقيل مشتعلاً بالحلم الذي يراه، كان يقرأ ما يناسبه أو لا يناسبه ، كان يرى العالم بصورة مغايرة عن الآخرين، لهذا كان هاجس الاختلاف والمغايرة والتميز يشكل بعض جيناته الذاهبة في الفعل، لهذا كان تأسيس الجديد يدفعه إلى الدخول في أقاليم لم يدخلها أحد من قبله، فكانت الاستغاثات هي، كما أرى، أول خطوة في القصة الفانتازية والغرائبية في القصة البحرينية الجديدة، وكانت كتابة القصة الطفلية هي الأخرى دفقة جديدة في روح الحركة الأدبية في البحرين، وأكاد أقول إن عبدالقادر عقيل، هو من ساهم بدفع حركة القصة الطفلية إلى أن تكون أحد أشكال التعبير في تجربتنا الأدبية . وأرى شخصياً أن عبدالقادر عقيل، هو ورقة الجوكر، أينما تضعه يفوز بك، ويعطيك أكثر مما تحلم، فهو أحد الأفراد القلائل، أدار أكثر المجلات الثقافية والأدبية في البحرين، من مجلة كتابات الفصلية التي أصدرتها دار الغد، إلى مجلة كلمات التي قامت بإصدارها أسرة الأدباء والكتاب، إلى البحرين الثقافية التي تصدر عن وزارة الإعلام البحرينية. وفي كل الأعمال التي يقوم بها هذا القلب المفعم بالنشاط والحيوية والرغبة في المغايرة والجدة والتميز، لا يمكن إلا أن نرفع له القبعة في كل ما قام به من إنجازات وفي كل ما يقوم ويحلم .
فتوة الحلم
من أجل الدخول في شيء من عوالم هذا الروائي الجميل عبدالقادر عقيل، دعونا نرحل معه إلى العام 1968، الذي رأى فيه نفسه وصورها بما يليق بشاب يدخل في الحلم.
يكتب عقيل: لقد حدث في صيف العام 1968، أنّي كنتُ خارجاً من بيتنا الواقع في « الفاضل»، بالقرب من مجلس عبدالرحمن القصيبي، مرتدياً أحسن ما عندي من هندام : بنطلون أزرق، قميص أبيض بأكمام قصيرة، حذاء أسود لامع، نظارة سوداء، وخصلة شعر ممتدة إلى الوراء في تنسيق هندسي دقيق، ماذا يتمنى فتى في الرابعة عشر من عمره سوى أن يتشبه بأيقونات الستينات من القرن الماضي: «ألفيس بريسلي»، «جيمس دين»، «عمر الشريف»، وغيرهم.
العام 1968 هزّ العالم بأسره، وكان منعطفاً حاسماً في تاريخ الغرب والعالم، فقد شهد أحداثاً فاصلة، بدأت باغتيال داعية الحقوق المدنية القس «مارتن لوثر كينغ»، واندلاع احتجاجات عنيفة واسعة في العديد من المدن الأمريكية، واغتيال مرشح الرئاسة الأمريكي «روبرت كينيدي» على يد الفلسطيني «سرحان بشارة سرحان»، واندلاع الاحتجاجات الواسعة والتظاهر ضد حرب فيتنام، خصوصاً بعد نشر كبريات الصحف صورة رئيس الشرطة الفيتنامي الجنوبي وهو يطلق النار على صدغ أحد ثوار الفيتكونغ في الشارع، ثم تأتي الهزة الكبرى التي أصابت أغلب العواصم العالمية باندلاع حركات تمرد طلابية وعمالية أشهرها ثورة طلاب «السوربون»، في باريس، الذين أعلنوا ثورتهم على أركان النظام القائم: الأخلاقية والسياسية والثقافية والفلسفية واختراق محظوراته الأخلاقية، متأثرين بأفكار الفيلسوف الألماني- الأمريكي «هربرت ماركوز»، متخذين شعار الشاعر «رامبو»الشهير: ينبغي تغيير الحياة، هذه الحياة الرتيبة التقليدية لم تعد تناسبنا، نريد شيئاً آخر غيرها..
ورافق ذلك تصاعد حركات تحرر المرأة في الغرب، ودخول قوات حلف «وارسو»مدينة «براغ» التشيكوسلوفاكية لقمع المظاهرات، وإسقاط حكومة «دوبتشيك»، وقمع حركة ربيع براغ الإصلاحية من أجل التغيير.
كان هذا زمن فرقة «البيتلز»، الموسيقية The Beatles التي قلبت قواعد الغناء والموسيقى بإيقاعها السريع، و»بوب ديلان» Bob Dylan ، و»جوانا بايز» Joan Baez، و»سيمون وغارفينكل» Simon and Garfunkel وأغنيتهم المشهورة «صوت الصمت» The Sound Of Silence التي كتبها «بول سايمون» مباشرة بعد اغتيال الرئيس الأمريكي «جون كينيدي» في 22 نوفمبر 63، واستخدمت في افتتاحية ونهاية فيلم «الخريج»The Graduate، وزمن أسطورة الملاكمة البطل «محمد علي كلاي»، المشهور بأسلوب المراوغة كالفراشة، والهجوم كالنحلة، والذي سحب اللقب منه بسبب رفضه الالتحاق بالخدمة العسكرية في جيش الولايات المتحدة الأمريكية أثناء حرب فيتنام، مبرراً ذلك بقوله: « لن أحارب الفيتكونغ في فيتنام فهم لم يلقبونني بالزنجي«.
بين أغنية فدائي والطشت قاللي
ويواصل عقيل « شهد العام أيضاً بدء حرب الاستنزاف، التعبير الذي أطلقه الرئيس الراحل «جمال عبدا لناصر» على العمليات العسكرية ضد القوات الإسرائيلية المحتلة، والتي استمرت حتى العام 1970. وحققت قوات المقاومة الفلسطينية الباسلة، بدعم من الجيش الأردني البطل، نصراً في معركة الكرامة بالأغوار، واستمرت المعركة أكثر من 16 ساعة، مما اضطر جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى الانسحاب الكامل من أرض المعركة. وكان أيضاً زمن انتشار أغنيات مثل «الطشت قاللي» و «أما نعيمة» و «إدلع يا عريس يا بولاسه نايلون» ولكنه أيضاً كان زمن يثير فيه «عبدالحليم حافظ» حماسة الشعب العربي بأغنيته المؤثرة:
« فدائي .. فدائي.. فدائي
أهدي العروبة دمائي
أموت أعيش .. ما يهمنيش
وكفايه أشوف علم العروبة باقي»
كنتُ أرى البحرين أجمل ما في هذا العالم المضطرب، وأجمل ما في البحرين عاصمتها المنامة، وأجمل ما في المنامة «حي الفاضل»، وأجمل ما في « الفاضل»هو بيتنا، وأجمل ما في بيتنا هو أنا، هذه الثقة، التي هي في غير محلها، تحوّلت فجأة إلى رعب حقيقي حين واجهتُ «حسينوه كِناه» «بالكاف الخفيفة المكسورة وتعني المجنون» بدراجته الهوائية خارجاً من زقاق ضيق، مندفعاً بأقصى سرعته إلى اللا مكان. «حسينوه كناه» يمكن أن يخرج كالعفريت من أي مكان، وفي أي وقت، يقود دراجته الهوائية بسرعة فائقة، بمهارة احترافية لا تضاهى، فهو يستطيع أن يرفع الدراجة إلى مستوى الجالسين على كرسي خشبي تحيةً لهم، كأنه أحد لاعبي الأكروبات، ويقال إنه جازف بعبور جسر المحرق – المنامة قاطعاً المسافة بدراجته على حافة الجسر الإسمنتية الضيقة.
شخصيات مختلفة
شارع واحد يفصل بين « الفاضل» و» كانو»، يقع على أطرافه «جامع الفاضل» بمنارته الطويلة المزخرفة، وبسجاده الأخضر الوثير، الذي جلب من لندن بكلفة تقارب 5200 جنيه إسترليني تبرع بها سمو الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه، لكن هذا الفاصل الرمزي كان يتجلى في أمور أخرى أيضاً، هنا الناس أكثر هدوءاً وأقل عنفاً. هنا بيوت عائلات: «كانو، المؤيد، الشتر، القصير، الخاجة، صلاح الدين، بشمي، قراطة».. وغيرهم. هنا لن تجد شخصيات «حي الفاضل» العنيفة: «مسيو، عبود ماضي، عبود جيناوي، سيد حماره، بوجي، سليطين».. وغيرهم.
مثل هذه الثنائيات المتناقضة بين حيين متقاربين «الفاضل وكانو» تجد لها شبيهاً في أكثر من مكان في المنامة: العدلية والماحوز، السقية والقفول، الجفيروالغريفة، العوضية والذواودة .. كما لو أن كل فئة تفضل أن تعيش في كانتونات منفصلة لها ثقافتها وأسلوب ونمط حياة مختلف عن الآخر، رغم أن المسافة بينهما لا تتعدى عبور شارع واحد.
كان «الفاضل» يضم خليطاً من الشيعة والسنة والهنود والعجم والعمانيين والبهرة وبعض اليهود يعيشون معاً في تناغم هارموني، وألفة اجتماعية وإنسانية حميمة.
المدينة المفتوحة
المنامة يراها عقيل كما لا يراها غيره ويقول : يقطن المنامة ملل وطوائف مختلفة «مسلمون، مسيحيون، يهود، هندوس، عجم، وعرب».. هي مدينة مفتوحة للجميع.. بوابة الثقافات والحضارات والأجناس المتنوعة.. وهذا هو سر جمالها وسحرها وتنوعها الثقافي والحضاري.
اجتزتُ « فريج كانو» باتجاه شارع التجار العريق بمحلاته التجارية الراقية «الكلاس» متوجهاً إلى «الصالون الأخضر» حيث بدأت العمل فيه خلال العطلة الصيفية في ذلك العام.
كنت أبحث عن أي عمل خلال العطلة الصيفية، عملاً «كلاس» مغايراً للعمل الذي التحقت به في «ميناء سلمان» ولم يدم أربعة أيام فقط، فقد كانت مهمتي أن أعلّم الخشب الذي ينقله العمال إلى سيارات الشحن بالطباشير للتأكد من العدد المطلوب شحنه، وكانت المهمة صعبة للغاية في مثل ذلك الطقس تحت الشمس اللاهبة، فلم أستمر أكثر من أربعة أيام. ورحتُ أبحث عن عمل «كلاس» أفضل من تصليح الدراجات الهوائية وتأجيرها، وهكذا ذهبت إلى «البنك البريطاني»، الواقع في أول شارع التجار، وطلبت أن أعمل مراسلاً في البنك، انتظرت بعض الوقت ثم طلبت مني السكرتيرة أن أكتب اسمي باللغة الإنجليزية. أخذت الورقة ودخلت على المدير، بعد قليل طلبني وقال إنه معجب بخطي لكنني صغير السن، وقال لي لماذا لا تكمل دراستك وأنا أضمن لك وظيفة كاتب في البنك بعد التخرج. كان هذا يعني الانتظار ثلاث سنوات أخرى، بينما كنت أتوق للحصول على وظيفة اليوم. ولم يكن أمامي خيار آخر إلا أن أوافق على مقترح والد صديقي لمرافقته إلى «الصالون الأخضر»، حيث يعمل بائعاً، لتمضية العطلة في عمل مفيد.
«الصالون الأخضر» كان مكاناً «كلاس»، كان عليّ أن ألبس ملابس نظيفة، ليست كتلك التي لبستها في «ميناء سلمان»، أو محل تصليح الدراجات الهوائية .. هنا الوضع مختلف.. هنا المنامة التي أحبها.. المنامة التي تحب أن تكون راقية، جميلة، نظيفة.
في «الصالون الأخضر» أنت محاطٌ بالعطور الباريسية: «مدام روشا»، «فام»، «شانيل»، والملابس النسائية الراقية، ومختلف أنواع أحمر الشفاه، وطلاء الأظافر، والإكسسوارات والشنط والأحذية الإيطالية، والساعات السويسرية، وملابس الزفاف والسهرة والنوم والبحر .. هنا عليك أن تجيد التحدث باللغة الإنجليزية والتعامل مع الزبائن، اللائي معظمهن من سيدات الطبقة الراقية، والتحدث إليهن بكل احترام.. وجدتُ في «الصالون الأخضر» المكان الذي أريده.. هنا مكيف الهواء لا يتوقف، بل تشعر أحياناً برجفة البرد تخترقك.. وهي بالطبع أرحم من النوم فوق سطح البيت. وكنت أحصل على مكافأة مالية نهاية الشهر، عدا ما أحصل عليه من السيدات الراقيات مقابل الخدمات الصغيرة التي كنت أؤديها لهن: إحضار ساندويتش من كافتيريا «سمير أميس»، أو شراء المشروب الجديد «سفن آب» .
«أميس» والمطعم الأهلي
ويتابع عقيل: كنت أفضل كافتيريا «سميره أميس» على «المطعم الأهلي»، الذي كان مطعماً شعبياً يقدم أفضل طبق عدس في المنامة.. «سميره أميس» كان مختلفاً تماماً .. كان هو وكافتيريا «ريفولي» أشبه بمطاعم الفاست فودز المنتشرة هذه الأيام.. «سميره أميس» كان مكاناً «كلاس» يقدم سندوتشاً لا مثيل له.
القسم الثاني من «الصالون الأخضر» كان هو المكان «الكلاس» الآخر، فقد كان صالون حلاقة نسائية فقط ومن الدرجة الأولى.. منافسه التقليدي هو «صالون جوز»، و»صالون الجوهرة»، لكن سيدات المجتمع الراقي كن يفضلن «الصالون الأخضر».. فالحلاقون من لبنان: جوزيف، إيلي، جورج، طوني.. كلهم «كلاس» في أسلوب حديثهم، وتعاملهم، وملابسهم. .
الصالون» يتولى أيضاً توزيع مجلة «النيوزويك» Newsweek كل أربعاء، واخترت للمساعدة في توزيع المجلة على نقاط البيع والمكتبات في محيط سوق المنامة. الوسيلة الوحيدة للتوزيع هي أخذ النسخ والمشي بها في السوق وتسليمها ثم العودة للمحل وأخذ الكميات الأخرى الجاهزة للتوزيع وهكذا. المشي في سوق المنامة متعة ليس بعدها متعة، فدخول المتاجر الكبيرة مثل «جاشنمال»، و»أشرف أخوان»، و»خوشابي» وتسليمها النسخ المحددة من المجلة، ومشاهدة كل هذا الترف من البضائع الراقية كان عالماً جديداً بالنسبة إليّ، وفي مقابل ذلك كنتُ أوزع المجلة على مكتبات مثل «مكتبة مبين»، وكانت فرصة للاطلاع على الكتب والمجلات الأجنبية المتنوعة، والأروع كان تسليم مكتب «شركة بابكو» في المنامة نسخاً من المجلة، وشرب الكثير من الماء البارد من كؤوس ورقية مثبتة في الجهاز المبرّد العجيب الموضوع في مدخل المكتب. ماء «بابكو» كان مختلفاً تماماً عن مياه الحنفية في «حي الفاضل»، ولم يكن يفوتني المرور على «المجلس الثقافي البريطاني» The British Council في المنامة لأخذ نسخة من مجلة «هنا لندن» باللغة العربية، أو المرور «بمطبعة المردي»، كما كنا نسميها آنذاك، لأخذ بقايا أوراق المطبعة التي يتم التخلص منها ورميها، وإعادة توزيعها على الأصدقاء، بعد تدبيسها وتحويلها إلى دفاتر صغيرة.
حين كنت أمشي ناحية «متجر روما» «الكلاس» أتوقف لمشاهدة الملابس الراقية في الفترينة، كنت أيضاً أتوقف عند «استديو خلفان» المحاذي له، وأذكر عندما طلب مني المدرس أن أصطحب ثلاثين طالباً من الصف السادس ابتدائي في طابور طويل خرج من «مدرسة المنامة الشمالية» إلى «استديو خلفان» لأخذ صور فوتوغرافية لكل طالب، ولأن معظمنا كان يلبس قمصاناً أو ثياباً، فقد لبسنا نفس ربطة العنق و» الكوت» الموجودين بالاستديو، وظهرت صورنا جميعاً بربطة عنق واحدة.
في يوم الخميس من كل أسبوع كنا نقطع أغلفة «النيوزويك» من الكميات المرتجعة، وكنت آخذ النسخ معي في طريق عودتي إلى البيت وأبيعها على خباز «حي الفاضل» وخباز «حي كانو»، كنت أحاول أن أضع ميزانية لمدة ثلاثة شهور كي أتمكن من تحقيق بعض الإنجازات قبل نهاية العطلة الصيفية منها شراء قمصان جديدة من «متجر عبدالغفار، أو أخوند عوضي، أو فقيهي»، وشراء بنطلون جينز من «متجر روما»، شراء حذاء من «باتيا». شراء جهاز تسجيل ذات بكرة من «المتجر الشرقي»وكذلك شراء منديل حريري من محلات «أشرف إخوان» يطبع عليه باللغة الإنجليزية حرف A وشراء هامبورغر من كافتيريا «ريفولي».
ويشير عقيل إلى أن المنامة شهدت في ذلك العام تغيرات ملحوظة في مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فتأسيس «نادي الخريجين» قبل عامين كان مؤشراً على ازدياد أعداد المتعلمين من خريجي الجامعات العربية والأوروبية، وهؤلاء عادوا محملين بثقافات مختلفة أثرت كثيراً في المجتمع البحريني، وهم الذين أصبحوا في طليعة الصفوف التي تقلدت المناصب الرئيسية في المؤسسات الرسمية والشركات والمصارف والأجهزة التعليمية والصحية بعد استقلال البحرين بعامين.
وكنت ترى في شوارع المنامة سيارات «الفولكس واغن» الصغيرة، التي بدأت تكتسح الأسواق، إلى جانب السيارات الأمريكية: «بليموث فيوري»، و«دودج كورونت»، و«بيوك»، والسيارات البريطانية خاصة الصغيرة «ميني ماينور»، وبعد ذلك السيارات اليابانية، وكان باستطاعتك مشاهدة «السيرك الهندي»، و «سيرك عاكف»، وزيارة «المعرض الزراعي والتجاري» في «كازينو الأندلس»، الذي يقال إن معرض عام 66 استقطب ستين كشكاً وبلغ عدد زواره ستين ألف زائر، وكانت 10 أيام حافلة غنت فيها المطربة المصرية شريفة فاضل، وقدم السيد الملاح فاصلاً هزلياً، وغنى محمد رشدي محيياً البحرين. أو تشاهد مسرحية « عمامي الثلاثة « التي قدمتها «أسرة فناني البحرين» في فترة عيد الأضحى المبارك واستمر عرضها قرابة الأسبوعين.
كانت البحرين تستعد لافتتاح مشروع «مدينة عيسى» النموذجية الذي من المتوقع أن يستوعب خمسة عشر ألف مواطن، وكانت الملصقات التعبوية التي تصدرها لجنة الإعلام «باتحاد الأندية الوطنية» تحرض الجمهور بالعبارات التالية «أخوانك الفدائيين لا تنقصهم الشجاعة.. ولا التضحية.. تنقصهم الذخيرة.. ينقصهم السلاح .. تبرع بمالك لشراء السلاح». وكان دعم البعض للمعركة عبر اختيار سيجارة «كليوباترا» المصرية بدلاً من السجائر الأمريكية، كان وقتاً جميلاً تتنفس فيه المنامة، وتخطو خطواتها الواثقة نحو التمدن والرقي.
بالنسبة لي كان افتتاح «سينما الحمراء»، كأول سينما مكيفة في البحرين ودول الخليج العربي، حدثاً غير عادي،»سينما الحمراء» المكيفة بسجادها الأحمر النظيف، ومقاعدها المريحة، علامة من علامات «الكلاس» في المنامة.. فهذه السينما تعرض ثلاث حفلات في اليوم، ويمنع فيها التدخين. وقبل أن تدخل الصالة يواجهك موظف مهندم يرشدك بمصباحه اليدوي إلى مقعدك، كل مقعد له رقم، وعليك الالتزام بالجلوس في المقعد المخصص لك. هي علي النقيض من كل ما كنا نختبره في دور سينما «البحرين، أو الزبارة، أو الأهلي، أو اللؤلؤ، أو النصر»، حيث يمكن أن يكون رأسك هدفاً لزجاجة طائشة تنفلت من أحد المحتجين لمجرد أنه لم يعجبه الفيلم، أو يكون ظهرك هدفاً لبقايا المكسرات التي يبصقها الشخص الجالس وراءك دون مبالاة، أو شخص ما يطلق صيحة احتجاج لأن الفيلم خال من المشاهد الساخنة، أو الجلوس على مقعد خشبي طويل مهتريء في مكان مسقوف يستخدم في الشتاء، ومكان مكشوف يستخدم في الصيف، يطلق عليه اسم سينما.
كان هذا دليلاً آخر على أن المنامة تحب أن تكون راقية، ونجحت تجربة «سينما الحمراء» في لجم فوضى الذين فضلوا اختيار دار سينما أكثر راحة لهم، وحين افتتحت «سينما أوال» ، المكيفة الجديدة بعد عام فقد الفوضويون معقلاً مهماً من معاقلهم، وبدأت «شركة البحرين للسينما» تصدر كتيباً صغيراً جداً بالأفلام التي ستعرض خلال شهر، كانت هذه وسيلة ترويجية أفضل من الذهاب إلى سوق المنامة، لمشاهدة بوسترات أفلام هذا المساء، أو متابعة الرجل الذي يمر بشوارع المنامة حاملاً على ظهره لوحة خشبية تحمل صوراً من الفيلم وهو يعلن بأعلى صوته عن اسم الفيلم ويدعو الجمهور لمشاهدته.
من الحوادث الطريفة التي وقعت في تلك الفترة أن أحد المعجبين بالمطربة «صباح» ، توجه إلى شاشة السينما رافعاً يديه وهو يهتف باسمها استعداداً لاحتضان «صباح»، وعند وصوله إلى الشاشة ارتطم جسمه بالجدار الإسمنتي، مما أثار ضحك الجمهور عليه.
العودة إلى المدارس
سرعان ما انتهت العطلة الصيفية، وحان وقت العودة إلى المدارس، وكانت حصيلة هذه العطلة شراء المنديل الحريري بحرف A من متجر (أشرف أخوان)، وشراء جهاز تسجيل، وراديو ترانزيستور صغير، واستطعت، بكل جرأة، دخول كافتيريا (ريفولي) (الكلاس) لأطلب الهمبورغر الفاخر الذي كان قيمته خمسمائة فلس، ولكن لم تواتيني الشجاعة لأن أجلس على المقعد في مواجهة الحسناء البريطانية صاحبة المحل لأكل الساندويتش، بل أخذته معي وفي الطريق إلى (حي الفاضل) التهمت كل قطعة من الهمبورغر اللذيذ، أما بقية الإنجازات فقد تركت أمر تحقيقها إلى العام القادم.
عقيل «نوفمبر 2008»
يقول الكاتب محمود الريماوي عن رواية أيام يوسف الأخيرة «عمد المؤلف إلى استخدام سردية حكائية، مباشرة وخبرية، وعلى نحو أقرب إلى القصص التي تخاطب الفتيان، بيد أن البناء السردي كان على درجة من المرونة أمكنه من خلالها مخاطبة متلقين متعددي المستويات والمدارك، على ما يبرع به كتّاب مجيدون في هذا الحقل، حيث تتساند عناصر القصة للأطفال، مع الإفادة من الرؤى الطفلية لصياغة قصص تخاطب البالغين، بما في ذلك تساؤلاتهم عن الحياة والموت والمصير البشري.
وإذا كنت الرواية قد تمحورت حول أثر الغياب المفاجئ للأب، فقد أتمها كاتبها بعودة مفاجئة لا تمهيد لها للرجل وغير مشفوعة بأي اعتذار، حتى ليكاد القارئ يشك إن كان العائد هو الأب نفسه، أو إن كان مازال أباً!وفيما تتناول الرواية أيام يوسف الأولى والأخيرة، فإنّ المسار اللاحق للأحداث بعد موت يوسف يتمحور حول البطل - الراوي الذي لا يحمل اسماً – ».
عبدالقادر عقيل
من مواليد المنامة 1954، له من الإصدارات: استغاثات في العالم الوحشي – قصص قصيرة – 1979، مساء البلورات – قصص قصيرة – 1985، • موضوعات حول العامية والشعر العامي، عمل مشترك مع الشاعر قاسم حداد والشاعر عبدا لرحمن رفيع – 1986، رؤى الجالس على عرش قدامه بحر زجاج شبه البلور، الشوكران – قصص قصيرة – 1994، كف مريم – رواية – 1997، أيام يوسف الأخيرة – رواية – 1999، أعماله للأطفال: من سرق قلم ندى – 1977، الاتفاق – 1980، الغيمة السوداء – 1980، من يجيب على سؤال ندى – عمل مشترك – 1986، حكايات شعبية من الخليج.