بنا: حققت زيارة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى إلى جمهورية باكستان الإسلامية الصديقة نتائج باهرة تعكس التعاون الذي يتطلع إليه البلدان على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية.
وكان جلالة العاهل المفدى قد ترأس خلال زيارة الدولة الرسمية إلى جمهورية باكستان الإسلامية الصديقة في الفترة من 18-20 مارس الحالي وفد يضم أكثر من 100 مسؤول وشخصية، منهم كبار السياسيين والاقتصاديين، فضلاً عن رجال الأعمال، وإبرام عدة اتفاقات ومذكرات تفاهم تمثل عماد مستقبل العلاقة التي تربط كلا من البحرين وباكستان، تلك هي النتائج المادية المباشرة التي أسفرت عنها زيارة جلالة الملك المفدى لجمهورية باكستان الصديقة.
بيد أن هذه النتائج الجوهرية، ورغم أهميتها في دراسة مسار وتطور مستوى العلاقات بين المملكة وباكستان، لكنها ليست النتائج الوحيدة، ولا الأخيرة، لزيارة جلالة الملك المفدى، التي ينبغي أن تلفت انتباهنا لجملة من الحقائق المهمة بشأن طبيعة العلاقة بين الدولتين الصديقتين، والتي لا يمكن تجاهلها أو غض الطرف عنها باعتبارها دلالات ورسائل استراتيجية كشفت عنها اللقاءات التشاورية المكثفة بين مسؤولي البلدين، وأكدتها الزيارة بفعالياتها المختلفة، وأبرزتها المباحثات التي أجراها جلالة العاهل المفدى والوفد المرافق له مع كبار المسؤولين في جمهورية باكستان الصديقة، ويمكن إيضاحها كالتالي:
تفاهم البلدين
بدت هذه التفاهمات جلية إزاء جملة من الملفات ذات الاهتمام المشترك، المحلية منها والإقليمية والعالمية، وهنا لا يتعلق الأمر فحسب بتلك القضايا والمسائل التي لا يخلو منها فضاء العلاقات بين الدول، وتم التوقيع على الهياكل التنسيقية لها خلال الزيارة وبحضور جلالة العاهل المفدى ورئيس الوزراء الباكستاني، ولوحظ مدى شموليتها وتغطيتها للعديد من جوانب التنسيق والتعاون الثنائي بين البحرين وباكستان، لاسيما منها ما يتعلق باللجنة الوزارية المشتركة بهدف إعادة تفعيل الإطار المنظم للعلاقات ولترتيب وتنظيم التفاعلات السياسية والاقتصادية بين البلدين في المستقبل، هذا فضلاً عن مذكرات التفاهم واتفاقات تنمية التعاون في مجالات الطاقة والمياه والأمن الغذائي وغير ذلك من ملفات.
واقع الأمر، لم تقتصر التفاهمات على ذلك فحسب، وإنما تجاوزت ذلك لتشمل رؤية البلدين للتحديات الأمنية التي قد يتعرضان لها مستقبلاً بالنظر لقرب التشابه في التجربة التي يمران بها، حيث المخاوف من امتدادات وأذرع وممارسات الجماعات الراديكالية ذات التوجه الديني أو التي تصطبغ برداء الدين، وهو منها براء، والتي لم يعد ممكنا مواجهتها إلا بالتكاتف سوياً لوأد المخاطر التي تفرزها في مهدها، كما لم يعد ممكنا تجاهل الارتباطات بينها على امتداد خريطة الكرة الأرضية، ولا المخاطر الجسيمة المتشابهة التي تفرضها باعتبارها كيانات تحاول القفز على سيادة الدولة وسلطانها، فضلاً عن الكلفة الباهظة الناتجة عن التصدي لها بشكل منفرد، الأمر الذي لم يعد بالإمكان الاستغناء عن خيار وحتمية التعاون الحقيقي والكامل، وهو ما أدركه البلدان، لمواجهتها والتصدي لها.
وقد تأكد هذا المعنى بين قادة ومسؤولي الدولتين في أكثر من مناسبة، وإن كنا سنركز على إشارتين مهمتين في هذا الصدد، الأولى عندما أكد العاهل المفدى في لقاءاته التي أجراها مع المسؤولين الباكستانيين وفي كلمته بمقر هيئة الأركان المشتركة الباكستانية على ضرورة مواصلة البلدين لدورهما في خدمة القضايا ذات الاهتمام المشترك وتعزيز التفاهم والتعاون بينهما حولها، والتي يأتي على رأسها تحديات العالم الجديد الأمنية.
ولاشك أن هذا التوافق البحريني الباكستاني يجيء كتجسيد واضح على رؤية البلدين بشأن شمولية مفهوم الأمن بأبعاده المختلفة، وتأثيره على حركة البناء والتنمية، وأهمية أن تستفيد الدولتان من تجربتهما في مواجهة كل ما من شأنه تهديد السلم الإقليمي والعالمي على السواء، خاصة أن كلا منهما يعول عليه باعتباره مختبراً للاستقرار في الشرق الأوسط والخليج من جهة ووسط آسيا من جهة أخرى، ويعدان عنصرين محوريين من عناصر حفظ وحماية نظم الأمن الإقليمي في مناطق حيوية تعتبر من أكثر مناطق العالم سخونة وتوتراً.
الإشارة الثانية جاءت في لقاء وزير الداخلية البحريني مع نظيره الباكستاني، وتأكدت عندما أبرز الأخير في تصريح لإحدى الفضائيات موقف بلاده ووقوفها إلى جانب المملكة في محاربتها للإرهاب ودعمها الكامل لكافة الإجراءات والخطوات التي تتخذها للتصدي لكل ما يمس أمنها واستقرارها، واستعدادها الكامل لتقديم خبرتها وتجاربها في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف لها، وهو ما أكد عليه البيان المشترك أيضاً في ختام الزيارة عندما أشار إلى الاتفاق على إجراء الحوار الأمني سنوياً، وتعزيز تبادل المعلومات والاستخبارات والتقييمات الأمنية بين البلدين.
وتنبع أهمية هذه الإشارة التي يمكن وصفها بالرسالة القوية من عدة اعتبارات، منها: إدراك البحرين لخطر الجماعات الإرهابية، واستعانتها بكل ما من شأنه تعزيز قدرتها على مواجهتها، سيما باكستان التي تعد من أكثر دول العالم عرضة للإرهاب الغاشم، وسعي البلدين لتأطير التعاون في هذا المجال وتعميق جذوره حتى يكون قادراً على تلبية الاستحقاقات التي تفرزها تحولات ومستجدات الجماعات الإرهابية بتلويناتها المختلفة.
التعاون المشترك
تبدو أهمية الجانب الاقتصادي في الزيارة السامية واضحة بالنظر إلى جملة من المؤشرات، قد يكون أبرزها حجم الوفد الاقتصادي المرافق للعاهل المفدى بالمقارنة بغيره، والذي يكشف في قوته وتشكيلته حرص القيادة الرشيدة على الاهتمام بدور القطاع الخاص الوطني، والفرص التي تتاح له للصعود والازدهار باعتباره محور النمو وعماد النهضة والرقي.
إضافة إلى الفعاليات التي قام بها ونظمها الوفد الاقتصادي البحريني مع المسؤولين الباكستانيين سواء خلال استقبال العاهل المفدى لرجال الأعمال البحرينيين والباكستانيين أو عبر منتدى رجال الأعمال باكستان ـ البحرين، واستهدفت هذه الفعاليات ليس فقط الترويج لبيئة الأعمال والحوافز التي تقدمها المملكة لتشجيع تدفق الاستثمارات إليها، وتدعيــــم الروابــــط الاقتصاديــــة التاريخيـــة بيــــن رجــــال الأعمــــال البحرينيين والباكستانيين، وإنما تحقيق هدف استراتيجي مهم من أهداف المملكة، وهو بلوغ مستوى عال من مستويات الأمن الغذائي الذاتي.
وهنـــا يجـــب التدقيــق جيداً فـي حقيقتين مهمتين تؤكدان الجهود الوطنيـــة التـــي تبذلهـــا القيــــادة الرشيـــدة للارتقــاء بدور الاقتصـــاد الوطنــــي لما له من دور وثقل فـــي رفعة المملكة من جهة وتحسين مستوى مواطنيها من جهة أخرى، الأولى تتعلق بالاتفاقات ومذكرات التفاهم سواء التي وقعتها الدولتان أو مؤسساتها الاقتصادية لتشجيع وحماية الاستثمارات المشتركة، ومن ثم تعزيز التبادلات التجارية بين البلدين، كمذكرة التفاهم بين مجلس التنمية الاقتصادية ومجلس الاستثمار الباكستاني وغيرها، وهي الاتفاقات التي ستسهم بلاشك في زيادة التفاعلات على هذا الصعيد، والمعـــروف هنـــا أن التجـــارة غيـــر النفطية بين البلدين وصلت عام 2011 إلى 157 مليون دولار بنسبة زيادة تصل إلى أكثر من 65% مقارنة بعام 2006، إما إجمالي حجم التجارة من النفط وغيره فقارب عام 2011 نحو 400 مليون دولار، بزيادة تقدر 400% بالمقارنة مع 105 ملايين دولار عام 2006..
الحقيقة الثانية تتعلق بالخطوات التـــــي يتعيــــن علــــى الدولتيــــن اتخاذها لتوفير قوة دافعة لزيادة الاستثمارات المتبادلة، خاصة أن العلاقات التجارية والاقتصادية، ورغم تحسنها، لكنها دون الإمكانات الحقيقية للدولتين، مثلما أكد على ذلك الرئيس الباكستاني، الذي دعا لترجمة حسن النوايا السياسية والروابط الأخوية بين البلدين إلى شراكة اقتصادية وتجارية قوية مما يعود بالفائدة المشتركة على شعبي الدولتين. ولاشك أن لكل من المملكة وباكستان أهدافهما المنشودة من أجل تحقيق هذا الغرض، وذلك تجسيداً لمساعي الأولى من أجل ضمان تحقيق أمنها الغذائي، وإدراكاً منها لميزات الإنتاج التنافسية وإمكانات النمو الاقتصادي الكبيرة في باكستان، وقناعة الأخيرة بأهمية البحرين باعتبارها البوابة المثالية إلى الأسواق الخليجية، ونجاحها في توفير بيئة عمل آمنة لمواطنيها من العاملين وأسرهم ممن يقطنون ويعملون بالمملكة ويناهزون المائة ألف نسمة، وتوصف بأكبر ثاني جالية في البحرين، وأشاد بها الرئيس الباكستاني عندما استقبل العاهل المفدى.
وهنا يشار إلى مذكرتي التفاهم للتعاون في مجال الأمن الغذائي، خاصة في مجال زراعة الأرز، وفي مجالات الأيدي العاملة والتدريب المهني، كما يشار إلى سلسلة مذكرات التفاهم التي وقعت على هامش منتدى الأعمال البحريني الباكستانــــي، والتــــي بلغـــــت 17 مذكرة تفاهم بغرض دعم الشراكة بين رجال الأعمال البحرينيين والباكستانيين، والمعروف هنا أنه يوجد أكثر من 400 شراكة بين رجال الأعمال في البلدين، هذا فضلا عن فروع الشركات الباكستانية العاملة في المملكة، وغير ذلك من مؤشرات تبرهن على سعي الدولتين لتحقيق طفــــرة فـــي علاقاتهمــــــا إثــــــر زيـــارة العاهـــل المفــــدى.
دعم أطر التعاون
للمستقبل موضعه المهم على هامش الزيارة السامية الأخيرة، وهو ما أبرزه البيان الختامي وكشفت عنه مباحثات المسؤولين البحرينيين مع نظرائهم في جمهورية باكستان الشقيقة، وللتدليل على ذلك يشار لعدة آليات يمكن استخلاصها من مجمل فعاليات الزيارة، ما عكس حــرص البلديــن المشتـــرك علـــى الاستمرار في التشاور حول مختلف القضايا وبشكل منتظم، منها: اتفاق الجانبين على ضرورة تعزيز عملية التعاون الثنائي وتبادل وجهات النظر سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الدفاعي أو الأمني، فضلاً عن العلاقات الشعبية أيضاً، دعم الآليات المؤسسية كاللجنة الوزارية المشتركة بهدف تنظيم عملية التباحث والتنسيق الثنائي واستمراريته، إجراء الجولة القادمة من المشاورات الثنائية بين وزارتي خارجية البلدين في النصف الثاني من عام 2014، فضلا عن الاتفاق على إجراء الحوار الأمني بين البلدين بشكل سنوي وعلى مستوى مناسب.
ومن الواضح أن الاهتمام بمستقبل تطوير العلاقات الثنائية البحرينية الباكستانية، والذي احتل جدول أولويات العاهل المفدى في زيارته، يرجع إلى ثلاثة عوامل رئيسية، أولها: قدم وعمق العلاقات بين الدولتين، والتي تعود لمئات السنين بالنظر للعائلات الباكستانية والباكستانيين ممن يعملون بالمملكة واتخذوها مقرا لأنشطتهم التجارية والمالية، وهناك الكثير من الأمثلة الدالة على ذلك، سيما في قطاعي التجارة بالتجزئة والمصارف.
ثانيها: أن باكستان هي أكثر الدول الإسلامية الآسيوية اتفاقاً مع قضايا البحرين تحديداً، ومنطقة الخليج عامة، ووقفت ومازالت تقف بثبات مع كل ما تحتاجه البحرين من دعم في الأحداث التي مرت بها، وتمثل عمقاً استراتيجياً مهماً لدول المنطقة ككل، وترتبط بعلاقات وثيقة بالشقيقة السعودية التي تشغل بدورها مركز القلب لكل بحريني، ومن الطبيعي أن يتم البناء على كل ذلك والاستفادة منه في تطوير مسارات التعاون البحريني ـ الباكستاني.
ثالثها: الفرص التي يمكن أن يوفرها الطرفان للآخر، خاصة مع نجاح سياستي الانفتاح على الجميع التي تتبعها البحرين، والاكتفاء الذاتي التي تتبعها الباكستان في كافة المجالات والقطاعات، وتبدو الفرص واعدة ومباشرة للدولتين إذا ما وظفت المملكة علاقاتها بالباكستان لإعادة تكرار تجربتها، خاصة أن بيئة الأعمال بها تشجع على ذلك، بينما تستطيع جمهورية باكستان توظيف علاقاتها بالمملكة للدخول وبقوة للسوق الخليجية الواسعة.