بقلم - السفير جاسم بن محمد بوعلاي:
بعــد انتهــاء الحــــرب العالمية الأولـــــى فــي 1918 دعــــــت شعوب العالـــــــم خصوصـــــاً المتضرريـــــن مــــــن الحرب حكوماتها إلى إنشاء نوع من التكتل الدولي يكون الغرض منه عمل كل ما يمكن عمله لتفادي ويلات تلك الحرب المتمثلة في الخسارة في الأرواح والممتلكات، فظهــرت للوجود منظمة دولية عرفت بعصبة الأمم شملت عضويتها معظم دول العالم باستثناء عدد قليل منها بعض الدول المؤثرة، وبمضي الوقت والتجربة فشلت تلك المنظمة في منع اشتعال نيران الحرب العالمية الثانية على الرغم من المحاولات التي بذلت لمنع حدوث ذلك، فخلف تلك المنظمة في 1945 وبعد انتهاء الحرب منظمة اخرى هي منظمة الأمم المتحدة الحالية مع فارق مهم في هيكلي المنظمتين الفعال، وهو مجلس الأمن، وكما يتضح من الاسم فالمجلس مسؤول عن حفظ السلام والأمن الدوليين وذلك بجانب الهياكل الأخرى التي هي الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومحكمة العدل الدولية. الدول الأعضاء في المنظمة الثانية خصوصاً المنتصرة في الحرب طالبت حين إنشائها بوجود آلية في مجلس الأمن تضمن عدم حدوث حروب عالمية مدمرة في المستقبل وبالتالي تكرس السلام فتم اختراع حق النقض «الفيتو»، وأعطي لكبار المنتصرين وحلفائهم وهم خمسة، الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي آنذاك والصين الوطنية قبل أن يتحول بعد ذلك الصوت إلى الصين الشعبية. هؤلاء الخمسة المفضلون لهم أولاً حق النقض وثانياً أن هذا الحق دائم، وهذا تمييز عن وضد الأعضاء العشرة الباقين من عضوية المجلس الذين ليس لهم حق النقض، أولاً وليسوا دائمين ثانياً، إذ إن مدة عضويتهم سنتان فقط، يستبدلون بعدها بأعضاء آخرين من الأمم المتحدة، وإذا ما علمنا بأن القرارات التي تتخذها الأمم المتحدة في هياكلها الأخرى غير ملزمة وأنها إلزامية بالنسبة لقرارات مجلس الأمن نرى خطورة استعمال حق النقض أو التهديد باستعماله. الأمم المتحدة ليس لديها جيشاً أو شرطة لتفعيل قراراتها وبالتالي، يمكن أن يستعمل حق النقض لمصالح وطنية بالنسبة لمن يملكه، هذه الظاهرة التمييزية تسير في اتجاه معاكس لما تنادي به مواثيق ودساتير وقوانين الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة من ديمقراطية ومساواةٍ في الحقوق والواجبات، وفي هذا تناقض من حيث المبدأ علاوة على أنه سبب إشكالية في تطبيق قرارات الأمم المتحدة، فكم من قضايا دولية مرت عليها السنون، وهي تراوح مكانها في الإشكال والتعقيد ولا تجد حلاً لها سواء كانت تلك القضايا سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، وعلى سبيل المثال لا الحصر من منطقتنا، القضية الفلسطينية وقضايا اللاجئين والصحراء والبيئة والمياه. كما إن ما سببه التمييز الممنوح لحملة حق النقض من إشكالية يزيد بكثير عما سببه في صلب عمل منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، إذ استعمل هذا الحق في تحقيق الأهداف الوطنية لأصحاب هذا الحق، وفي هذا الأسلوب غير المشروع استغلال واضح لهذا الحق، فحين تناول مجلس الأمن الدولي، ونشدد هنا على تعبير الدولي بالمقارنة مع مجالس الأمن الموجودة في الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، لقضية دولية فإن الأعضاء غير الدائمين في المجلس يحسبون ألف حساب لاتجاهات الدول دائمة العضوية في المجلس حاملي حق النقض «الفيتو» وتلك الاتجاهات ملونة في غالب الأحيان بالمصالح الوطنية للدول دائمة العضوية، عجيب هذا الوضع، قضية دولية تبحث في محفل دولي باسم منظمة دولية «هي الوحيدة في العالم» وهي منظمة الأمم المتحدة ثم يجرى مسار البحث والقرارات بعده عاكساً للمصالح الوطنية الفردية للدول الأعضاء في المجلس والتي لها حق النقض وتكون لها الكلمة الأخيرة الفصل في موضوع البحث. وقد نتج عن هذا الوضع غير الطبيعي أنه حينما لا تتناقض مصالح الدول دائمة العضوية يتم اتخاذ قرار جماعي قابل للتنفيذ كتحرير الكويت مثلاً أما في حالة التناقض فيتم معالجة القضايا الدولية خارج نطاق الأمم المتحدة، وما تغيير النظام في ليبيا ضمن ظاهرة ما عرف بـ»الربيع العربي» إلا دليل على ذلك، إذ تم بواسطة منظمة إقليمية هي حلف شمال الأطلسي. أما حينما تم العزم على معالجة الوضع في سوريا ضمن نطاق الأمم المتحدة، فالعجز واضح أمام العالم على الرغم من الأعداد الهائلة للضحايا واللاجئين، فالخلاف واضح بين الدول دائمة العضوية داخل مجلس الأمن بين الغرب والشرق نتج عنه عجز المجلس عن إصدار حتى بيان صحافي أو رئاسي ناهيك عن قرار ملزم لإنهاء الصراع في سوريا.
أمام هذا الوضع التمييزي طالبت كثير من الدول الأعضاء في المنظمة الدولية بأن يتم تغييره بتغيير تركيبة العضوية في مجلس الأمن، لكن الكل يعلم أن أي تغيير يطال إزالة حق النقض سيكون مصيره استعمال الفيتو بواسطة حامليه. لذلك، وعلى سبيل المثال، كان موقف المملكة العربية السعودية الرافض لعضوية المجلس، ونظراً للظروف القاسية والمصيرية التي تمر بها منطقتنا، يجدر أن يتم شرح ذلك الموقف بشيء من التفصيل.
المملكـــة العربيـــة السعوديـــة عضـــو مؤســس فـي المنظمتين، الإقليمية جامعة الدول العربية، والدولية منظمة الأمم المتحدة، والعضو المؤسس في أي مؤسسة أو منظمة يتميز عن الأعضاء الذين انضموا فيما بعد في أن العضو المؤسس قد عاصر المنظمة منذ بدايتها ولذلك فهو شاهد على تفعيل أهدافها الواردة في دساتيرها على أرض الواقع، إذ إن هناك بوناً شاسعاً بين النظرية والتطبيق. لذا فإن العضو المؤسس قد سنحت له الفرصة على مدى السنوات الماضية للنظر والتمعن في مشاهدة آليات ذلك التطبيق وتقييم النتائج الفعلية الحاصلة عليها المنظمة ومقارنتها بالنتائج التي تتوخاها تلك المنظمة، وتتيح بالتالي لذلك العضو المؤسس تلمس مدى النجاح الذي تحقق إلى جانب أي إخفاق قد حصل مع دراسة السبل لتفاديه مستقبلاً، كل ذلك أتيح للمملكة للدراسة والتمحيص، أولاً راقبت البداية غير العادلة لعمل مجلس الأمن في بيئة ممارسة حق النقض، ثم رأت كيف أن هذه البداية الخاطئة قد انعكست على القضايا الدولية التي تناولها مجلس الأمن، فبدءاً بالقضية الفلسطينية القضية العربية المركزية، كانت المملكة شاهداً على تطوراتها منذ عام 1948 إلى اليوم، ملاحظة الانحياز الغربي والشرقي صوب إسرائيل مع عدة استعمالات للفيتو في المراحل التي مرت بها القضية لا التهديد باستعماله كما هو الحال بالنسبة لقضايا أخرى في المجلس، إذ إن حاملي الفيتو يتحرجون من استعماله، ولكن بالنسبة للقضية الفلسطينية تم استعماله بالفعل عدة مرات تحت سمع ونظر المملكة مع ما تبع استعمال الفيتو من نتائج سلبية بانت في عقد مؤتمرات واتفاقات سلمية لا تحترم ومصادرة أراض فلسطينية وبناء مستوطنات إسرائيلية عليها وذلك بشكل مستمر ومتعنت تحت سمع ونظر المجتمع الدولي ممثلاً في مجلس أمنه، ومن تجرأ بتقديم مشروع قرار على طريق الحل العادل للقضية فالفيتو جاهز لوأده.
طوال هذه السنين لاحظ مندوبو الدول الأعضاء في الأمم المتحدة عدم تقدم المملكة بترشيحها لعضوية مجلس الأمن على تأثيره وأهميته في المنظمة وكان هذا العزوف لافتا للنظر بالنسبة لدولة مؤثرة كالمملكة وعلى جميع الأصعدة، وكثرت التأويلات بحثاً عن أسباب هذا العزوف من أهمها أن المملكة تتبع سياسة التروي والهدوء المشوب بالسرية في معالجة الأمور ومنها الدولية، ولم يوجه المفسرون اهتمامهم البتة للقصور والفشل والتحيز المتصف بها المجلس نظراً لطبيعة تركيبته المقرونة أساساً بامتلاك حق النقض بالنسبة لأعضائه الدائمين ومع أنه من الطبيعي التركيز على العزوف وصاحبه إلا أنه لم تتم الإشارة في هذا الصدد إلى سلبيات عمل مجلس الأمن لكن ليس هناك أي سبب يحدو لتردد المملكة في الترشيح لعضويته وهي العريقة والمجربة في أمور المنظمة الدولية حينما انتسبت لعضويتها مبكراً، وإذا كان هناك سبب من جانب المملكة فقد كان من الأولى لها ألا تنتسب لعضوية المنظمة ككل لا أن تصير عضوة في الأصل وتترد في الانتساب لعضوية هيكل من هياكلها مع أنه الأهم بواقع الحال لا بالعدالة في التصدي لمعالجة القضايا الدولية.
ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير بحدوث ظاهرة ما أصطلح على تسميته بـ«الربيع العربي» تم فيها قلب الأنظمة في بعض البلدان العربية بواسطة ثوار لم يحضروا أنظمة بديلة لتسيير دفة الحكم فتولد فراغ ملأته الأحزاب التقليدية محدثة أوضاعاً غير مستقرة مشوبة بالمواجهات المستمرة مع ضحايا وصلت في الحالة السورية إلى حرب أهلية تتصف بالشراسة والعنف، خلف ويخلف ضحايا كثيرة ومهاجرين كثر. كل هذه الحوادث السلبية حولت الربيع العربي إلى خريف لا يحمد عقباه. في قمة هذه الظاهرة والحرب الأهلية الضروس الدائرة في سوريا والتي فاضت معاركها ولاجئيها لتشمل جيران سوريا، العراق وتركيا والأردن ولبنان وهم جيران للمملكة بحيث أصبح أمنها الوطني بصورة مباشرة أو غير مباشرة مهدداً.
ماذا اتخذت المملكة من إجراءات لتشعر الأمم المتحدة بالأخطار المحدقة بها في المنطقة من جهة وتقاعس مجلس الأمن عن القيام بدوره الواجب عليه للتصدي لهذه المعارك الطاحنة في سوريا مع هذا العدد الهائل من الضحايا نظراً للاستعمال المفرط للأسلحة الفتاكة بأنواعها. بطريقتها الخاصة بدأت المملكة تشعر المنظمة بامتعاضها، ففي إحدى دورات الجمعية العامة حيث يلقى رؤساء الوفود كلمات تعبر عن وجهة نظر دولهم في بنود جدول أعمال الجمعية التي تحتوى في العادة على ما يقارب المائة وخمسين بنداً، لم يلق رئيس وفد المملكة كلمة بلاده وإنما أمر بتوزيعها على الوفود المشاركة، ولم تلتفت المنظمة إلى المغزى فأعيدت الكرة دون جدوى فانتقلت المملكة إلى الإتيان بإجراء أقوى، وهو الاعتذار عن شغل مقعد غير دائم في مجلس الأمن بعد أن تم ترشيحها وانتخابها دون صعوبة تذكر. قائل يقول لماذا لم تعتذر المملكة بعد الترشيح وقبل الانتخاب، والجواب أنه لو تم ذلك لاعتبر اعتذاراً عادياً سيمر دون الالتفات إليه مثله مثل الترشيحات الأخرى، لكن الرسالة السعودية التي أرسلت للمنظمة بعد الانتخاب كانت أقوى في مدلولها بدليل الضجة التي خلقتها ومازالت. والمملكة بين خيارين، إما أن تتراجع بعد فترة عن موقفها وتقبل المقعد وتكون بذلك قد أوضحت موقفها بصورة قوية وعادت إلى المشاركة في أعمال المنظمة التي هي أحد مؤسسيها أو أن تظل على موقفها الرافض إلى النهاية وإذا ما تم ربط البديل الثاني كسبب مباشر لما يحدث في سوريا من جهة وعجز مجلس الأمن عن التصدي له من جهة أخرى فمن المحتمل أن تستمر المملكة على موقفها الرافض للتعامل مع مجلس الأمن بالموقف الذي هو عليه حالياً بالنسبة للأزمة السورية.
أما ما سيحدث إذا اختارت المملكة البديل الأول فمن السهل تصوره، اجتماعات مطولة وعلى جميع الأصعدة للمجلس، إضافة إلى جنيف 1 و2، ومندوب المملكة عضو المجلس يستمع إلى خطابات ومناورات محصلتها تقديم مشاريع بيانات صحافية وبيانات رئاسية وقرارات، ولأن واحداً وأكثر من الأعضاء الدائمين للمجلس سيهدد باستعمال الفيتو أو استعماله بالفعل سيبقى الوضع البحثي للأزمة على حاله المتأرجح غير المجدي، علماً بأن المجلس لم يصدر حتى أي بيان ناهيك عن القرار بينما الضحايا تتساقط كل يوم بشكل مخيف وكذلك الأعداد الهائلة للاجئين، إضافة إلى تفاعل هذه الأزمة السورية لكثرة الأطراف المشاركة فيها وتأثيرها السلبي على الدول المجاورة التي أصبحت تخشى من جرائها على أمنها الوطني ومنها المملكة.
هل في هذا الجو المشحون بالكراهية والقتل على أرض الواقع والتقاعس المستمر الواضح لمجلس الأمن وعجزه عن إيجاد حل إن لم يكن سياسياً فعلى الأقل إنسانياً للحالة السابقة نستغرب من موقف المملكة المتردد لقبول مقعد غير دائم في المجلس. موطن الاستغراب نابع ليس من موقف المملكة ولكن من عجز المجلس ولأن ناقوس الخطر قد دقته المملكة المعروفة بالتبصر والروية في سياستها الخارجية فهو دليل قاطع على استفحال الأمر وأن الوقت قد حان لكي ينفض المجلس عنه غبار التردد، وان على الدول دائمة العضوية أن تنظر في معالجة هذه المسألة إلى أبعد من مصالحها الوطنية لأن هذه المصالح لا يجب أن تتحقق على حساب إزهاق أرواح البشر. وهذا ليس كل شيء فعندما يتصدى المجلس للمسألة السورية بإيجاد حل عادل، وهذا في مقدوره، إذا قبل بالاقتراح الفرنسي بعدم استعمال حق النقض في القضايا بالدولية المصيرية فقد آن الأوان أن ينظر المجلس في الإصلاح الجذري لطرق عمله بالبدء بالتخلص من «الفيتو»، وهذا موضوع آخر.
المندوب الدائم السابق للبحرين في الأمم المتحدة