كتب - أمين صالح: بعد أن قضى المخرج الإسباني لويس بونويل سنوات من المنفى الاختياري في المكسيك، حيث قدم العديد من الأعمال، بدأ في تصوير أفلامه في فرنسا، دون أن يتخلى عن الإقامة في المكسيك. من بين أفلامه الفرنسية:يوميات خادمة Diary of a Chambermaid 1964 الفيلم مأخوذ عن رواية اوكتاف ميربو، المكتوبة في 1900، وقد سبق لجان رينوار أن أخرجها للسينما الأمريكية. بونويل، مع شريكه في كتابة السيناريو جان كلود كارييه، قاما بتحويل الأحداث وجعلها تدور في الثلاثينات من القرن العشرين، مع اكتساب الحركة الفاشية في فرنسا القوة والنفوذ. إلى بيت ريفي بورجوازي، تسكنه عائلة لا ينسجم أفرادها مع بعضهم، بل إن نزواتهم تجعلهم يبدون غريبي الأطوار، محبطين وفاسدين أخلاقياً، تأتي الخادمة الجديدة «جان مورو» لتعتني بالبيت وبرب العائلة، الأرستقراطي المقعد. منذ البداية، تحاول الخادمة أن تتكيف مع هذا العالم المتفسخ، لكنها تصد محاولات الابن الشاب، المفرط في الأناقة، الذي يميل إليها جنسياً ويسعى إلى إغوائها «كما الحال مع كل الرجال الذين تلتقي بهم».. هذا الصد، يؤجج رغبة الشاب في الانتقام، وهو يوجه هذه الرغبة الجنسية الحاقدة نحو الخادمة الأكبر سناً، الأقل جمالاً وذكاءً، التي تستقبل هذا الانتهاك بذهول وخوف. في الوقت نفسه، تحاول الخادمة الجديدة أن تنتهز الفرص لتحسين وضعها المادي والاجتماعي. في ما بعد، تتوصل إلى قناعة بأن سائق العائلة، ذا الميول الفاشية، هو الذي اغتصب فتاة صغيرة تسكن في الجوار ثم قتلها. من أجل فضحه وتسليمه إلى العدالة، هي تقيم معه علاقة، لكي تنتزع منه الاعتراف، ثم تزرع أدلة زائفة لإدانته، لكن المحكمة تطلق سراحه لعدم كفاية الأدلة، ويمضي مبتهجاً، محاولاً تحقيق حلمه بأن يكون صاحب محل تجاري وأن ينضم، بالتالي، إلى الطبقة المتوسطة. وقبل أن يحقق ذلك، يشارك في مظاهرة فاشية عنصرية. أما الخادمة فتتزوج، في الأخير، كولونيلاً متقاعداً. الفيلم يعتمد السرد المباشر ضمن البناء الكلاسيكي، والشخصيات المرسومة بدقة، والمناظر الواقعية للريف الفرنسي.. من دون تعويل على المنحى السوريالي في الأحداث أو الأسلوب. وفي هذا هو يقترب من مجموعة أفلامه ذات الحبكة الميلودرامية التي حققها في الخمسينات، في المكسيك.سيمون ابن الصحراء Simon of the Desert 1965 فيلم متوسط الطول، مدته 45 دقيقة تقريباً، نفذه في المكسيك، وأحداثه تدور في الماضي، ويحمل سمات الكوميديا السوداء السوريالية. وتشير بعض المصادر إلى أن تصوير الفيلم تعرض إلى الإجهاض بعد إفلاس المنتج، ولم يتمكن بونويل من إكماله. أغلب الأحداث تدور في حيز محدد. إنه عن الإغواءات التي يتعرض لها القديس سيمون، المستعمد.. وهو ناسك مسيحي عاش في القرن الخامس، وقضى 37 سنة في الصحراء يعظ الحجاج. ولكي يكون أقرب إلى الله فقد أمضى أكثر من ست سنوات عائشاً على رأس عمود حجري في الصحراء، متعبداً ومجترحاً المعجزات، مكتفياً بالخس والماء.يبدأ الفيلم بتبرع ثري محسن ببناء عمود أطول من ذاك الذي أقام عليه سنوات، وذلك ضمن عرض احتفالي. لكن رجال الكنيسة يرتابون فيه ويلفقون له التهم. أتباعه لا يبالون بالمعجزات التي يجترحها. الفلاحون يسخرون منه ويستهجنون مواقفه. الشيطان يظهر له مرةً في هيئة فتاة تحاول إغواءه، ومرةً في صورة المسيح الذي يرافقه حمَل، وأخيراً في صورة امرأة تنجح في أخذه معها في رحلة بالطائرة إلى نيويورك، وتحديداً إلى حانة رقص بمانهاتن، وبذلك ينتقل سيمون إلى العالم الحديث «في الستينيات من القرن العشرين» لكن بروح ضالة بعد استسلامه وخضوعه لإغواءات الشيطان.يقول بونويل: «يغضبني أن أسمع البعض يقول إن ثمة تجديفاً في فيلمي هذا. أكره أن تنسب إلي أشياء لم أكن أقصد التحدث عنها أو الإشارة إليها».المجرة La Voie Lactee 1969بونويل وصف فيلمه هذا بـ«رحلة عبر التعصب». الفيلم، وعنوانه باللغة الإنجليزية The milky way، يتتبع أثر شخصين، من الحجاج الفقراء، في الزمن الحاضر، أحدهما شاب والآخر عجوز، ينطلقان من باريس، عبر الجنوب الفرنسي، إلى منطقة في أسبانيا، لزيارة ضريح ديني يخص أحد القديسين.ما يبدأ ظاهرياً كرحلة دينية عبر الطريق، يصبح نقداً مريراً وهجاءً قاسياً للكاثوليكية من وجهة نظر بونويل السوريالية. إنهما يشهدان حالات من الظلم والقسوة واللامبالاة، يشاهدان الفوضويين وهم يطلقون النار على البابا، يصادفان قسيساً يفرط في تمجيد فضائل المسيح حتى يأتي من يودعه عنوة في مصح عقلي، يريان راهبة تتعرض للصلب بتهمة الهرطقة.عمل صادم، مقلق، محرض، يكشف رياء وشرور أولئك الذين يتخذون من الدين ذريعة لممارسة الظلم والكبح والاضطهاد.تريستانا Tristana1970الفيلم مأخوذ عن رواية بنيتو بيريز جالدوس «مؤلف نازارين»، المكتوبة في العام 1892، في حين تدور أحداث الفيلم في السنوات من 1928 إلى 1935، أي قبل وأثناء الحرب الأهلية الإسبانية. في حديثه عن الفيلم قال بونويل: «تريستانا واحدة من أسوأ روايات جالدوس، مع ذلك فقد أتاحت لي أن أرصد مظاهر معينة من الحياة الأسبانية والعادات الإسبانية».الفيلم عن تريستانا «كاثرين دينوف»، امرأة شابة يتيمة، بريئة، يغويها الوصي عليها «فرناندو ري»، وهو أرستقراطي ليبرالي عجوز، أمها كانت عشيقته، وبعد وفاتها أصبح وصياً عليها. في وسطه الاجتماعي، ينظر إليه كرجل مستقيم، شريف، حكيم، بينما هو في البيت، تحديداً في علاقته بالشابة، يبدو مخادعاً ومنافقاً وشريراً.هي تهرب مع فنان شاب «فرانكو نيرو» يرغب في الزواج منها. بعد عامين، وعندما ينمو ورم خبيث في ساقها، استدعى بتر الساق، هي تهجر زوجها وتعود إلى الأرستقراطي، الذي يتحول إلى كائن ضعيف وهش. إنها تعود لكي يوفر لها الدعم والعون، ولكي تعذبه وتنتقم منه. إنها تكرهه إلى حد أنها تتفرج عليه وهو يموت، إثر نوبة قلبية، من دون أن تبادر إلى استدعاء الطبيب. شخصيات دوافعها وأفعالها في غاية التعقيد. هو ليس بالوحش الصرف، وهي ليست الضحية البريئة تماماً. ثمة صدوع في أعماق النفس وانحرافات يصعب إدراكها.إنه نموذج ممتاز لما يمكن أن يضيفه المخرج العظيم من طبقات متعددة من المعاني والدلالات لقصة عادية ومألوفة. ثمة تلميحات وإشارات إلى الحكم الديكتاتوري في إسبانيا، ورياء الكنيسة الكاثوليكية. إضافة إلى نقد القيم البورجوازية.