شدد علماء ودعاة على «فضل العبادة في زمن الفتن»، مشيرين إلى أنها «تعادل ثواب الهجرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كما إن فضل الطاعات يتضاعف في أوقات الغفلات».
وأضافوا أن «أكثر الناس في أزمنة الفتن ينشغلون بها، ويخوضون كثيراً فيها إما بالفعل والمشاركة وإما بالقول والتحليل، لكن قليلاً من الناس من ينشغل في أوقات الفتن بإصلاح قلبه، وتزكية نفسه بمزيد إقبال على الله تعالى، وجمع القلب عليه، والتوجه إليه سبحانه بأنواع القربات والطاعات».
من جهته، استشهد الشيخ فلاح إسماعيل مندكار بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه: «العبادة في الهرج تعادل هجرة إلي»، والهرج هو وقت الفتن والفوضى واختلاط الأمور وشيوع القتل، فتكون العبادة في هذه الأجواء الصعبة كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم».
والفضل الوارد في هذا الحديث لمن عبدالله في أوقات الفتن عظيم وكبير، فالهجرة إلى الله ورسوله من أعظم الأعمال التي يرجو بها أصحابها الخير، ويكفي العبد في بيان هذا الفضل أن الله تعالى يقول في كتابه: «لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبيرٌ». ويقول سبحانه: «فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب».
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا الهجرة لكنت امرؤاً من الأنصار». وقال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله».
وفي هذا الصدد، قال الشيخ عبدالكريم الخضير «لا يتفرغ للعبادة في زمن الهرج واحتدام الفتنة واختلاط أمر الناس إلا الموفقين»، مضيفاً أنه «كلما وجدت فتنة، على الإنسان العاقل أن ينصرف إلى عبادة ربه وقتها، إذا كان لا يستطيع أن يكون مؤثراً في إزالة هذه الفتنة أو تخفيفها، وإلا لو كان له أثر في إزالتها أو تخفيفها، كان ذلك أفضل من العبادة الخاصة».
وذكر الشيخ الخضير، بقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى، في هذا السياق: «إن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف الدين ويقل الاعتناء به، ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشه وما يتعلق به، ومن ثم عظم قدر العبادة أيام الفتنة، وفي حديث الرسول «العبادة في الهرج كهجرة إلي»، والمقصود بالهرج، الارتباك، وزيادة الفتن، والقتل، واختلاط الناس بعضهم ببعض»، ومن ثم المتمسك بالعبادة في ذلك الوقت، والمنقطع إليها، والمنعزل عن الناس أثناء تلك الفتنة، هو كأجر المهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المهاجر قد فر بدينه، عمن يصده عنه، وكذلك المنقطع للعبادة، فقد فر بدينه من الفتن التي يتعلق بها الناس، فقد هاجر إلى ربه، ومن ثم المخرج من تلك الفتن يكون بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام».
ومما يزيد الأمر إيضاحاً أن أدلة الشرع قد دلت على أن الفضل يتضاعف لمن عبد الله تعالى في أوقات الغفلات، فعلى سبيل المثال لننظر إلى حال الناس في الأسواق، سنرى أن أكثرهم ينشغلون ببيع وشراء وربما انشغل البعض بحلف كاذب أو غش أو تدليس وغير ذلك من المخالفات، وفي مثل هذه الأجواء من يذكر ربه ويعبده بأنواع القربات يتضاعف أجره، قال الله تعالى ممتدحا أمثال هؤلاء: «رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب». وفي الحديث الذي رواه الإمام النسائي: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب الله سائر الخلائق».
ومما يدل أيضاً على فضل التعبد في أوقات الغفلات والفتن، قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله». وأكبر مثال على فضل على التعبد في أوقات الغفلات والفتن، فضل صلاة الليل، ولذلك كان فضل صلاة الفجر كبيراً وعظيماً خاصة وأن الغالبية من الناس يكونون نياماً وغافلين عن عبادة ربهم وذكره. وفي السياق ذاته، قال الشيخ عبدالعزيز السدحان «لا يأتي زمان إلا ما بعده شر منه، وإننا جميعاً نلحظ الفتن المنتشرة هذه الأيام، والفتن على قسمين، فتن شهوات، وفتن شبهات، وفتن الشهوات، هي ما يقترفه العبد من آثام بالجوارح، أما فتن الشبهات وهي الفتن العظيمة، والتي تتعلق بأمراض القلب، وقد أكثر الله جل وعلا في القرآن الكريم، وأكثر نبيه الكريم في سنته المطهرة، من التحذير والترهيب، من الوقوع في تلك الفتن، مع ضرورة تبيان أن الشريعة الإسلامية شريعة كاملة صالحة لكل زمان ومكان، لأنها تنزيل من حكيم حميد». وخلص العلماء إلى أنه «ليكن معلوماً ومستقراً في نفوس المؤمنين أن تسلط الظالمين وأهل الباطل على المؤمنين في زمن الفتن، لا يدوم ولا يستقر بل لابد من زواله والتمكين للمؤمنين، وبهذا نطقت أدلة الشرع المبين: «كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيزٌ».
وقال سبحانه «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون». وقال سبحانه «فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال». ورأى العلماء أن هناك فريقين يسيئان التعامل مع أدلة انتصار الحق على الباطل في زمن الفتن، الفريق الأول، يتواكل ولا يعمل ويترك الأخذ بالأسباب المستطاعة وهو يظن أن التمكين سيأتيه لا محالة وهو فهم خاطئ لسنن الله تعالى التي لا تحابي ولا تجامل، والفريق الثاني، يستعجل فيرتكب من الأفعال ما يجر على الأمة الويلات ويدخلها في أتون صراعات لم تستعد لها».