شدد علماء ودعاة على أن «عبادة الله هي المهمة العظيمة التي من أجلها خلق الخلق، فهي لا تقتصر على أداء الشعائر من صلاة وصيام وحج فحسب، ولكنها تمتد لتنظم حياة الإنسان كلها بشتى جوانبها بحيث لا يخرج شيء منها عن دائرة التعبد للخالق، وتمتد كذلك لتشمل جميع ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، يقول الله تعالى «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين»، مشيرين إلى أن «الإنسان لا يبلغ ذروة الكمال البشري في العزة والشرف والحرية إلا بعبوديته لربه، وقد وصل إلى هذا الكمال أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وفي مقدمتهم نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربه جل وعلا في أعلى مقاماته مقام تلقي الوحي ومقام الإسراء بوصف العبودية، باعتبارها أرقى وأعظم وأشرف منزلة يرقى إليها الإنسان، فقال سبحانه «الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا»، وقال في مقام آخر «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً»، فكلما ازداد العبد تحقيقاً لهذه العبودية كلما ازداد كماله وعلت درجته».
واستشهد العلماء بالحديث القدسي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك»، والمقصود بقوله تفرغ لعبادتي أي تفرغ من مهماتك وأشغالك الدنيوية لطاعتي والتقرب إلي بأنواع القرب، موضحين أن «على العبد أن يقنع بما قسم الله له، وأن يثق بوعد الله وحسن تدبيره له، وألا يكون شديد الاضطراب والخوف مما يستقبل، فالمستقبل بيد الله، وأن ينظر إلى من هو دونه في أمور الدنيا، وليستعن على ذلك بقصر الأمل واليقين بأن الرزق الذي قدر له لا بد وأن يأتيه وإن لم يشتد حرصه، فليست شدة الحرص هي السبب لوصول الأرزاق». من جهته، قال الداعية الشيخ عمر عبدالكافي إن «الحديث العظيم يضع للعبد علاجاً عظيماً للهموم والغموم التي يتعرض لها في حياته الدنيا، وهذا العلاج هو الاشتغال بما خلق له وهو عبادة الله عز وجل، والاهتمام بأمر الآخرة، فإن العبد إذا شغله هم الآخرة أزاح الله عن قلبه هموم الدنيا وغمومها، وخفف عنه أكدارها وأنكادها، فيصفو القلب ويتجرد من كل الأشغال، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام «من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك»، وقال أيضاً «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له».
وفي هذا الصدد، قال الإمام ابن القيم رحمه الله «إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله عنه سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه» .
وأوضح الشيخ عبدالكافي ان «الناس في الدنيا نوعان، النوع الأول، اعتبر أن الدنيا ممر للأخرة، وبالتالي جعل كل أمور حياته عبادة لله عزوجل، يقول الله تعالى «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين»، أما النوع الثاني فقد اعتبر أن الدنيا هي حياته الأبدية ومن ثم نسي آخرته ولم يعمل لها».
وأضاف الشيخ عبدالكافي أن «حقيقة الغنى إنما هي في القلب، وهي القناعة التي يقذفها الله في قلوب من شاء من عباده، فيرضون معها بما قسم الله، ولا يتطلعون إلى مطامع الدنيا أو يلهثون وراءها لهث الحريص عليها المستكثر منها، وقد بين ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه «أترى أن كثرة المال هو الغنى؟! إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا، وإنما يضر نفسه شحها».
في السياق ذاته، قال الشيخ محمد راتب النابلسي «هناك أعمال لها أساس في المستقبل وهناك أعمال لا أثر لها في المستقبل»، مضيفاً أن «الإنسان خاسر لا محالة لان مضي الزمن يستهلكه، فعمر الإنسان ما هو إلا بضعة أيام، كلما انقضى جزء منها كلما اقترب الإنسان من الموت، وبالتالي الإنسان خاسر لأن عمره يتناقص، فكل ثانية تمضي من عمر الإنسان، مؤشر على أنه يقترب من الموت والفناء، ومن عد غداً من أجله، فقد أساء صحبة الموت».
وأضاف الشيخ النابلسي أن «الوقت هو أثمن ما يملك الإنسان، وهو رأس ماله، ومن ثم ينفق على طريقتين، إما ينفق استهلاكاً، فلا يكون له أثر مستقبلي، أو ينفق في سبيل الله تعالى، ومن ثم يكون له أثر مستقبلي في الدنيا والآخرة».
ورأى أن «الاستمتاع بالحياة ليس له أثر مستقبلي على الإطلاق، رغم أنه ديدن أهل الأرض، وعندما يأتي ملك الموت ليقبض روح الإنسان، فإنه ينهي كل شيء، ينهي غنى الغني، وفقر الفقير، وقوة القوي، وضعف الضعيف، ولا يبقى للإنسان إلا عمله الصالح، وكما قال الله تعالى في سورة العصر (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)».
وأوضح الشيخ النابلسي أن «اليوم إذا مر على العبد، وقد خلا من زيادة علم بالله، ومن عمل صالح يتقرب به إلى ربه، ومن دعوة صادقة إلى الله تعالى، ومن صبر على معصية الخالق، وصبر على طاعة الله، وعلى قضائه وقدره، فهذا اليوم خسارة كبيرة للإنسان حتى وإن جنى مالاً كثيراً»، مضيفاً أن «الوقت مثل المال، فحينما ينفق العبد زكاة ماله يحفظ الله له بقية ماله، وان انفق العبد زكاة وقته، حينما يخصص جزءاً منه لعبادة ربه بأية وسيلة طالما استحضر النية لله تعالى، فسوف يحفظ الله له بقية وقته، ويبارك له فيه، ومن ثم من يعمل عملاً صالحاً فهو ينفق الوقت استثماراً».
وحذر الشيخ النابلسي «من يدعي انشغاله عن عبادة ربه، بسبب ضيق الوقت، وعدم وجود وقت فراغ»، مشيراً إلى أن «ذلك الإنسان يبقى فقيراً حتى وإن كان غنياً، فالمنشغل بعبادة ربه والمستحضر النية دائماً ينطبق عليه قول الله تعالى «فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى»، فأمور العبد الطائع كلها ميسرة، وكما قال جل وعلا في حديثه القدسي «يابن آدم لا تخف من ذي سلطان مادام سلطاني وملكي لا يزول، يابن آدم، لا تخف من فوات الرزق مادامت خزائني مملوءة لا تنفذ، يابن آدم، خلقتُ الأشياء كلها من أجلك وخلقتك من أجلي، فسر في طاعتي يطِعك كل شيء، يا بن آدم، لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإن خالفتني في فريضتي، لم أخالفك في رزقك، يا بن آدم، إن رضيتَ بما قسمته لك أرحتُ قلبكَ، وإن لم ترض بما قسمته لك فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها كركض الوحوش في البرية ولا ينالك منها إلا ما قسمته لك وكنت عندي مذموماً»».