كتب علي الشرقاوي:
في كتابه الجميل والذي أعتبره أهم الكتب التي صدرت عن الإذاعة حتى الآن للروائي والكاتب في السير الشخصية «حسين المحروس، يقول في مقدمة «إذاعة البحرين... سيرة الكلام» وهي سيرة الباب، مثل أي باب يريك ما لم يكن في الحسبان، جلس فيه الشاب عبدالرحمن عبدالله مع أحد أقربائه في محل تجاري يدير شؤونه، يتحدثان ويتفقدان المارة في شارعه الحيوي، مر إبراهيم كانو وفي نيته أن يملأ الفضاء بالصوت كله «أين صرت يا عبدالرحمن؟»
- ليس بعد.. قدمت أوراقي إلى شركة بابكو ولم أتلق منها رداً حتى الآن لكنهم وعدوني خيراً.
- طيب ما رأيك لو نجعل صوتك يطير في الهواء.
- الصوت؟ صوتي؟ ويطير؟ كيف؟
- هل ترغب في العمل في إذاعة البحرين؟
- إذاعة البحرين؟ لم نسمع بها، أستمع لإذاعات كثيرة ليس بينها إذاعة للبحرين؟ أية إذاعة؟ أين هي؟
- لم تبدأ بعد .. هي في طور التأسيس يا عبدالرحمن، حكومة البحرين ستؤسس إذاعة.
عرف عبدالرحمن سر غياب إبراهيم كانو عن المدرسة الثانوية، قيل إنه سافر لكن قليلين هم الذين عرفوا أن جهة سفره قبرص لحضور دوره بإذاعة الشرق الأدنى التي تبث باللغة العربية، إذاعة مشهورة تمولها الحكومة البريطانية آنذاك، نعرفها قبل أن نعرف الـ«بي بي سي» العربية
ما دمت سأكون معك فخذني إليها
حسن نلتقي غداً في الساعة الثامنة صباحاً في باب البحرين.
طفولة عبدالرحمن عبدالله
يعود عبدالرحمن عبدالله بنا من خلال الحديث عن طفولته التي سردها للباحث حسين المحروس ،عن جزيرة المحرق ، صورتها التي أحكيها الآن وأتلذّذ بها مثل أي سرد يدخر الصور ويحكيها، ويعيد تلوينها وفق ما نتمنى، ليس ثمة حي في هذه الجزيرة لا يطل البحر عليه.
كأني ولدت في حي من الماء، يمتد من بيتنا إلى جزيرة «عراد» فنطلع عليها به، ونتواصل معها عليه بالسفن الصغيرة التي نصنعها من ما يهبه البحر من قطع خشبية صغيرة، أو بما كان يعرف في تلك الأيام بـ «العبرة» مستخدمين «البانوش» وهو السفينة الصغيرة، أو «اللنج» وهو نوع آخر من السفن أيضاً، فكلما تعدد الماء تعددت وسائل الاتصال به، ولصغر سننا نستخدم العبرة مجاناً في الذهاب والإياب بينما يدفع الكبار ما تيسر لهم.
شيء من الطفولة.. شيء من التعليم
ينقل الباحث حسين المحروس ما يقوله الإذاعي عبدالرحمن عبدالله عن طفولته «تعلمت قراءة القرآن الكريم عند رجلين ، الأول «ملا درويش» في حي «البنعلي»، والثاني «ملا عبدالكريم الأنصاري» بعد أن انتقلت إلى حي الفاضل في المنامة، وأنهيت قراءته أخذوني إلى مدرسة المعاودة الابتدائية، نسبة إلى الشاعر البحريني المرحوم عبدالرحمن المعاودة، وتعرف بـ «الأهلية»، وبـ «الإصلاح» أيضاً، مكانها شارع الشيخ حمد، في الجهة المقابلة لما كان يعرف بمستشفى الدكتور «بندركار».
مازالت الحرب العالمية الثانية مستعرة، وأجواؤها متمكنة من نفوس الناس ويومياتهم، انتقلت إلى مدرسة الهداية الخليفية، مديرها مصطفى صبحي، مصري ابتعث من قبل الحكومة المصرية، التي اعتادت إرسال بعثات للمشاركة في التعليم على نفقتها الخاصة إلى جانب مجموعة من المدرسين البحرينيين، منذ العام 1919. أذكر من الأساتذة الراحلين: حسين محمد حسين «رحمه الله» وعبدالرحيم روزبة، وماجد الخليفة، ومطر المعاودة، وعيسى الجودر، الذي عمل معلقاً على رياضة المصارعة الحرة في قناة «أرامكو».
كان نظام الحضور إلى مدرسة الهداية على فترتين: من الصباح إلى الظهر، ومن العصر حتى المغرب. كان علينا أن نركب أقدامنا لنقطع مسافة طويلة من بيتنا إلى المدرسة. ولا أذكر من أصدقائي مَنْ كان يملك دراجة هوائية غير عبدالله عيسى بوحجي الأستاذ إبراهيم كانو.
والطالب عبد الرحمن عبدالله يواصل كلامه وبقول «في نهاية كل عام دراسي تنظم المدرسة مهرجاناً رياضياً، يحضره كبار الشخصيات وأهالي الحي كله، ويشارك تلاميذ المدرسة في كل فقراته. شاركت زملائي التلاميذ مرتين في الاستعراض الذي يبدأ به المهرجان مرتدين زياً موحداً.
كان مدرس الرياضة عبدالرحمن مطر مسؤولاً عن فقرات الرياضة في المهرجان، ويشرف عليها سيف جبر المسلم المراقب العام للرياضة في مدارس البحرين كلها.
في هذه المدرسة تعرفت لأول مرة على الراحل إبراهيم كانو مسؤولاً عن الرياضة، يهتم بفرق المدرسة الرياضية كافة في جميع المجالات، وعندما تكون هناك مباراة بين مدرستنا ومدرسة الصناعة يكون كانو في وضع نفسي لا يحسد عليه. فالمنافسة تكون على أشدها.
يدخل الصف، يكتب على السبورة «إن ينصركم الله فلا غالب لكم» ثم يكتب «واعتصموا بحبل الله جميعاً». كانت عيون الأندية كلها على هؤلاء الطلبة المبدعين، وكان أفضل لاعبي الأندية من المدارس، والمباريات فرصة هذه الأندية لاكتشاف اللاعبين المتميزين.
أنهيت الصف الثالث الابتدائي والتحقت بالمدرسة الشرقية في شارع الشيخ عبدالله بالمنامة، مديرها سوري يدعى خير الدين الأتاسي كان من بين معلمي هذه المدرسة الشاعر رضي الموسوي، وعلي تقي، وسكرتير المدرسة خليل زباري، في هذه المدرسة التقيت «علي تقي» لأول مرة مدرساً للرياضة، ولم تكن له أية علاقة بالرياضة، إذا حل فصل الشتاء أخرجنا من الصف وأعطانا تمارين رياضية للتدفئة.
أول مجموعة في المدرسة الثانوية البحرينية
ويضيف عبدالرحمن عبدالله «أتممت الصف الرابع الذي يعادل الآن السادس، ثم انتقلت إلى المدرسة الثانوية عام 1950 أو 1951، كنا أول مجموعة تدخل المدرسة الثانوية في المنامة، التي يديرها أستاذ مصري، لعله هو رئيس البعثة المصرية، لا أتذكر جيداً وكنت قد تخصصت في القسم التجاري، وليست لي علاقة بالتجارة، لكنها الرفقة.
كنا مجموعة أصدقاء لم نرغب في التفرق فدخلنا القسم التجاري، وكان من الصعب أن ننتقل إلى صف جديد دون أن يكون فيه أحد من الأصدقاء. ربما هي قلة الوعي، وربما هي علائق الصداقة. إنهم أصدقائي: علي حسين يتيم، وإبراهيم خليل المؤيد، وعبدالرحمن درويش، والشيخ عيسى بن راشد وغيرهم، هنا التقيت بإبراهيم كانو مرة أخرى سكرتيراً للمدرسة ومدرساً للتربية البدنية، وعلي شبر في معمل المدرسة.
بداية مرحلة جديدة من الحياة العملية
يضيف عبدالرحمن «تخرجت بين عامي 1954 و1955.. لا ينسى أحد طقوس يوم توزيع الشهادات الفاضح، ينادي الأستاذ علينا اسماً اسماً فلا يعرف أحد نتائجه إلا بعد أن يقول بصوت عال «حاضر»، هنا ينظر إليه الأستاذ قائلاً «ناجح» مثلاً، ويسلمه شهادته، أو يقول له أمام الجميع «راسب»، أما الذي عليه دور ثان فعليه الاستعداد للاختبار في مطلع العام المقبل، لقد فتح أبي «رحمه الله» عيني على الصورة، يأخذني إلى سينما المحرق عبارة عن جدار أبيض كبير تعرض فيه الحياة، كما أدهشني ألفة السينما كثيراً وصرت أتردد عليها وعلى سينما اللؤلؤ في حي النعيم بالمنامة، تعرف «بسينما القصيبي» نسبة لصاحبها، وسينما الزبارة التي تحول اسمها لاحقاً إلى «سينما البحرين» وسينما الزياني.
كان كل شيء يشكل حدثاً متفرداً له هيئته ورائحته شراء التذكرة، الدخول إلى قاعة السينما، الرجل الذي كان يدور في الشوارع يحمل لوحاً قد لصق عليه إعلان «Poster» عن الفيلم الذي سيعرض في السينما، كتب عليه أسماء الممثلين في الفيلم، نذهب إلى السينما مرة واحدة في الأسبوع وأحياناً مرتين.
مروج الأفلام يجوب في الأحياء والشوارع الهامة خصوصاً منطقة باب البحرين في المنامة، قرب مكتبة عبيد، ومكتبة سلمان كمال، ثمة رجل يهتم كثيراً بالمعلن المتجول، يوقف هذا المعلن ويتحدث معه ويستفسر عن الفيلم، خصوصاً إذا كان الإعلان عن فيلم هندي، أتعجب كثيراً لفرط اهتمام هذا الشخص بكل ما يعرض من أفلام، لكني لم أكن أعرف أن هذا الرجل هو الشاعر إبراهيم العريض.
قبل بدء الفيلم تعرض مقدمة تمهيدية لا علاقة لها بالفيلم يسمونها «Sample»، ولأن هذه الفترة هي للمد القومي، لذا كانت دور السينما تعرض «جريدة مصر الناطقة» قبل الفيلم، نشاهد فيها الرئيس جمال عبدالناصر، استعراضاً للجيش المصري، وأموراً أخرى متعلقة بالزعماء والعروبة.
أفلام بداية الخمسينات
فيلم «عنتر» من أكثر الأفلام شهرة، فقد عرض في سينما الزياني لفترة طويلة، كان رائعاً عجيباً، شاهده الناس مرات، وارتبط مزاج بعضهم البطل «عنتر» فكانوا يقولون «الليلة عنتر ما كان مثل البارحة».
خليجيون يزورون البحرين لمتابعة أفلام السينما، العمانيون أعجبوا كثيراً بفيلم «عنتر» قال لي خليجي «جئت البحرين لقضاء ثلاثة أيام فصارت ثلاثة أشهر» سألته عن السبب فقال «ثلاثة أشياء السينما والأيسكريم والثلج».
الصوت في الفضاء
يقول عبدالرحمن عبدالله «كان من عادة كانو الالتقاء بأصدقائه في باب البحرين، بالقرب من مركز الشرطة، من أصدقائه الضابطين الشهيرين الراحلين» علي ميرزا وعبدالكريم سلمان»، وجدته ينتظرني على الموعد أخذني إلى مكاتب في الدور الأول، رأيت جيمس بلغريف «الذي عرف أيضاً باسم حمد» يسألني عن دراستي وتخرجي، ثم كلفني بطباعة ورقة على الآلة الكاتبة، بقيت هناك حتى العاشرة صباحاً، بعدها أخذوني إلى مكان ليس فيه غير أربعة منازل ومبنى سيكون المقر الأول لإذاعة البحرين، وسيكون اسم الم كان «العدلية» لاحقاً، بالقرب من مبنى الإذاعة يوجد منزل أحمد العمران، وبيت الشيخ أحمد بن علي الذي أسس مكتباً للتوظيف عرف باسم «مكتب العمل» في باب البحرين، من هنا، قرب إذاعة البحرين يمر سباق الخيل كل أسبوع.
دخلنا المبنى فوجدنا الإنجليز يعملون في جد على تثبيت مجموعة الأجهزة الخاصة بالبث والتسجيل، كان الفنيون تابعين لشركة «Cable