يتنامى يوماً بعد آخر الدور الروسي في العالم، فروسيا والتي تعتبر الوريثة الشرعية للاتحاد السوفيتي الأسبق تعمل بشكل جاد لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي الذي تفكك في العام 1991.
صعود روسيا الاتحادية التدريجي كقوى كبرى في العالم مجدداً يتزامن مع تراجع في الأداء الأمريكي، لدرجة جعلت العديدين من المحللين السياسيين يقولون بأن عصر الأحادية القطبية الذي سمح للولايات المتحدة الأمريكية بفرض سيطرتها وإرادتها المنفردة على العالم منذ عقد التسعينات أصبح أمراً من الماضي.
وبالرغم من أن هناك عدة محللين يقولون بأن انتهاء عصر الأحادية القطبية سيكون لصالح عودة مرحلة القطبية الثنائية (التي كانت سابقاً تتكون من الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي) وأن بقية القوى الكبرى والصاعدة في العالم ستكون تابعة بشكل أو بآخر لأحد القطبين، إلا أن العديد يؤكدون أن انتهاء مرحلة الأحادية القطبية ستكون لصالح إيجاد عالم متعدد الأقطاب حيث بجانب الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا هناك اليوم الاتحاد الأوروبي والكتلة الآسيوية ممثلة تحديداً في الصين والهند.
وفي الوقت التي قد تنقسم فيه الرؤى بين من يقول بأن العالم يتجه إلى الثنائية القطبية من جديد وأخرى يؤكد أننا نتجه إلى عالم متعدد الأقطاب، إلا أن الجميع يتفق بطبيعة الحال على انتهاء مرحلة الأحادية القطبية خصوصاً مع تزايد الأخطاء المتكررة للولايات المتحدة الأمريكية على صعيد سياساتها الخارجية واستخدامها المفرط للقوى العسكرية وعنجهيتها في التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإفراطها في استخدام شعارات كحقوق الإنسان لفرض أجنداتها هنا وهناك بالرغم من أنها أكثر من ينتهك حقوق الإنسان سواء داخل الولايات المتحدة أو خارج أراضيها بأبشع الصور والأشكال، وغيرها من العوامل التي من أحدها بطبيعة الحال إصرار الدول الكبرى بعدم السماح لواشنطن بالتحكم والتفرد بالهيمنة على العالم.
وبالعودة إلى روسيا وصعودها المثير، يشير المحللين إلى أن ذلك أمر ليس بالمستغرب، ويعللون ذلك بالإشارة إلى أن موسكو تعتبر أصلاً من الدول الكبرى ولها حضورها على المسرح الدولي بفعالية ونشاط متميز؛ بحيث لا يمكن لأي متعاط مع أحداث العالم السياسية، أن يتجاهلها أو يلغي دورها، لذلك فإن غياب الدور والحضور الروسي عن مسرح الأحداث لمدة فهو قطعاً لن يكون غياباً دائماً.
وعاد الحديث مجدداً خلال الأسابيع الماضية عن عودة روسيا كقوى صاعدة مع الأحداث التي شهدتها أوكرانيا، وضم الروس إلى شبه جزيرة القرم إعطاء دليل إضافي على استعادة روسيا لمكانة القوة العظمى التي كان يشغلها الاتحاد السوفييتي على الساحة الدولية قبل أن يتفكك وينهار في ديسمبر عام 1991، حيث يقول الكاتب المتخصص في الشؤون الدولية السيد هاني» لقد انتهت الأزمة بانتصار روسيا على معسكر الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في عدة جبهات».
ويقول السيد هاني أيضاً في مقال نشره بعنوان «روسيا. عودة قوة عظمى إلى الساحة الدولية» في جريدة الأهرام المصرية معلقاً على ما حصل في الأزمة الأوكرانية «على الصعيد السياسي. فشلت الدول الغربية في مواجهة التمدد الروسي نحو الغرب، وكشفت العقوبات التي فرضتها على روسيا من قبيل حظر سفر بعض المسؤولين الروس أو مصادرة أموالهم، عن ضعف الموقف الغربي إلى الدرجة التي أثارت سخرية واستهزاء المسؤولين الروس أنفسهم. خاصة أنهم ليس لديهم أرصدة في بنوك الدول الغربية بموجب قرار أصدره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ فترة».
وأضاف» على الصعيد السياسي أيضاً. أحدثت أزمة أوكرانيا انشقاقاً داخل الاتحاد الأوروبى، وظهرت جبهة ترفض تصعيد المواجهة مع روسيا تتزعمها ألمانيا ومعها كل من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والسويد بسبب المصالح الاقتصادية التي تربط هذه الدول بروسيا».
وتابع»على صعيد العلاقات الثنائية بين كل من روسيا والولايات المتحدة. بعثت روسيا من خلال إدارتها للأزمة الأوكرانية برسالة جديدة إلى الولايات المتحدة تقول: إن عصر القطب الواحد قد انتهى وعاد العالم من جديد إلى عصر الثنائية القطبية!».
عودة روسيا إلى الساحة السياسية ومقارعتها للولايات المتحدة الأمريكية، يرجعه المحللون السياسيون إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والدور الذي لعبه في استعادة هيبة ودور موسكو في العالم.
وتجلت مواقف فلاديمير بوتين من الملف السوري في تصريحات أدلى بها عندما كان رئيساً للوزراء وعندما أصبح رئيساً، منها أن «سوريا ليست ليبيا»، في إشارة إلى معارضة بلاده لأي تدخل عسكري في سوريا على غرار تدخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي أدى إلى الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي.
كما يعرف بوتين بانتقاده للولايات المتحدة وحلفائها في تعاطيهم مع بعض القضايا الدولية، فقد عارض غزو العراق عام 2003 خارج إطار الأمم المتحدة والتدخل في ليبيا، وقال في هذا الصدد «إن بعض الدول تحاول الحفاظ على نفوذها السابق عبر إجراءات أحادية الجانب في السياسة الدولية».
وانتقد بوتين يوم 9 يوليو/تموز 2012 الغرب لتصديره «ديمقراطية الصواريخ والقنابل» عبر ما سماها تدخله في النزاعات الداخلية للآخرين.
كما عارض استقلال إقليم كوسوفو عن صربيا واعتبره غير شرعي، إضافة إلى موقفه الرافض للدرع الصاروخي الأمريكي في أوروبا معتبراً إياه تهديداً قريباً من حدود روسيا.
ويرى «قيصر روسيا» أن بلاده يجب أن يكون لها دور في القضايا الدولية، وصرح بهذا الخصوص قائلاً «لا بد لروسيا أن تؤثر على الأحداث التي تجري في مناطق العالم، وليس الاكتفاء فقط بالمراقبة عن بعد، خصوصاً في الأماكن التي بها المصالح الروسية».
وكان فلاديمير بوتين قبل هذا قد وصف انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين».
وينوه الساسة إلى أن بوتين وقبل انشغاله في إرجاع هيبة موسكو على الصعيد الخارجي، قام أولاً بإصلاح المشاكل الداخلية التي تعاني منها روسيا فقد عمل على تعزيز السلطة المركزية، وإحداث التوازن في العلاقات بين أجهزة الدولة، وركز على إصلاح الاقتصاد وتحقيق نمو اقتصادي مستقر، وقد حقق نتائج إيجابية على هذا الصعيد حيث زاد إجمالي الناتج المحلي لروسيا بحوالي 30%، واستمر انخفاض التضخم والبطالة، وارتفع الدخل الحقيقي للسكان بشكل كبير.
كما إنه قام بمحاربة وتصفية عصابات المافيا الروسية التي سرقت الكثير من المال العام، وأعاد أيضاً الاستقرار النفسي للمجتمع الروسي الذي عصفت به مشكلات متعددة، وذلك من خلال ما قام به من إعادة بعض الرموز القديمة للدولة السوفيتية ومنها العلم الأحمر كرمز للجيش الروسي والنجمة السوفيتية المذهبة والنشيد الوطني القديم بعد تعديل بعض كلماته مع الاحتفاظ باللحن القديم نفسه.
ويرى عدد من المحللين السياسيين أنه رغم صعود الدور الروسي، فإن طبيعة هذا الدور لن تخرج، في السنوات المقبلة، عن نطاق الشريك في توجيه الأحداث، وليس اللاعب الوحيد، أو البديل للدور الأمريكي، معتبرين أن الحديث عن دور روسي جديد في العالم يتطلب مناقشة علاقة هذا الدور بالنفوذ الأمريكي، الذي لا يمكن تجاهله، فأي دور يمكن أن تلعبه روسيا سيكون مرتبطاً بتوافق ما مع الولايات المتحدة، مؤكدين على حاجة العالم للتعددية القطبية.