كتب- أمين صالح:في العام 1960 حقق المخرج الفرنسي جان لوك جودار ثاني أفلامه «الجندي الصغير»The Little Soldier, بالفرنسية Le Petit Soldat. الرقابة الفرنسية منعت عرض الفيلم لأسباب سياسية، لكنها عادت وسمحت بعرضه في خريف 1963.في هذا الفيلم خلق جودار شخصية مركّبة، ومن أكثر شخصياته تعقيداً. برونو (ميشيل سوبور) عميل من الحزب اليميني يجد نفسه عالقاً في الصراعات الناجمة من حرب الجزائر، والذي من خلال روايته للأحداث، خارج الكادر، نسمع تأملاته وشكوكه.يقول جودار (مجلة كاييه دو سينما، العدد 109، يوليو 1960): «إنها قصة عميل سري فرنسي يرفض أن ينفّذ مهمة، لكنه في آخر الأمر يفعل ذلك بعد أن يمر ببعض المحن، من بينها اعتقاله وتعذيبه على يد شبكة منافسة (..) إنها قصة رجل يشعر أن صورته المنعكسة في المرآة لا تتطابق مع صورته الحقيقية، رجل يعتقد أن النساء لا ينبغي أن تتجاوز أعمارهن الخامسة والعشرين، رجل يحب موسيقى هايدن، رجل يرغب أن يكون قادراً على شق طريقه بالسكين، رجل فخور جداً بكونه فرنسياً لأنه يحب جواشيم دو بياي ولوي أراغون، رجل لم يكبر بعد ولا يزال صبياً صغيراً.. لذلك اخترت للفيلم عنوان (الجندي الصغير)».ويضيف جودار قائلاً:«هو فيلم عن رجل يجد أن الوجوه التي يراها في المرآة لا تتوافق مع فكرته عما يكمن خلف الوجوه. إنه الرجل الذي يحلّل نفسه ويكتشف أنه مختلف عن الفكرة التي كوّنها عن نفسه. شخصياً، عندما أنظر إلى نفسي في المرآة، يتكوّن لدي الإحساس ذاته».وفي مقابلة له مع إيفون بابي، نشرت العام 1960، يقول: «إنها قصة لاجئ فرنسي في سويسرا، والذي ينتسب إلى جماعة إرهابية مضادة. يطلبون منه أن يقتل رجلاً لكنه يرفض. في نهاية الأمر يمتثل لهم (..) لقد شعرت بأني أستطيع أن أقول شيئاً عن التعذيب، رغم أنني لم أتعرّض لأي نوع من التعذيب (..) كنت دوماً أتساءل عن مدى قدرتي على التزام الصمت تحت التعذيب. لا أعرف. غير أني أردت أن أعالج هذا الموضوع».وفي موضع آخر (كاييه دو سينما، العدد 138، ديسمبر 1962) يقول: «الفيلم نما من فكرة قديمة. أردت أن أتحدث عن عملية غسل الدماغ. لقد اعتادوا أن يقولوا للسجين: (قد يستغرق هذا عشرين دقيقة أو عشرين سنة، لكن بوسعك دوماً أن تجعل الشخص يتكلم ويعترف). أحداث الجزائر جعلتني أستبدل غسل الدماغ بالتعذيب، والذي أصبح قضية كبرى. سجيني هو شخص مطلوب منه أن يفعل شيئاً لكنه لا يريد أن يفعله.. هكذا ببساطة. وهو يتشبث بمبدئه. هذه هي الحرية، كما أراها.. من وجهة نظر عملية. أن تكون حراً يعني أن تكون قادراً على فعل ما تشاء وقتما تشاء. الفيلم يدلي بشهادة عن المرحلة. ثمة حديث عن السياسة (في الفيلم) لكن ليس هناك أي انحياز سياسي. طريقتي في إشراك نفسي هي أن أقول: الموجة الجديدة متهمة بأنها في أفلامها لا تعرض شيئاً غير أفراد على الفراش. شخصياتي ستكون فعالة ونشطة في السياسة، ولا وقت لديها للفراش. على أية حال، السياسة تعني الجزائر. لكن كان عليّ أن أتعامل مع هذا بدافع تجربتي الخاصة ومشاعري الشخصية. أنا أتحدث عما يعنيني ويقلقني، باريسي في العام 1960، غير منتم إلى أي حزب، والذي كان يعنيني وقتذاك هو معضلة الحرب. لذلك عرضت رجلاً يطرح على نفسه الكثير من المعضلات. هو لا يستطيع أن يحلها، لكن بطرحها، حتى على نحو مشوّش، هو يقوم بمحاولة لإيجاد حل لها. أريد من الفيلم أن يطرح أسئلة. تلك هي الغاية، بصرف النظر عن مظهره الإثاري. بعد مشاهدته، بإمكان المرء أن يتناقش بشأن التعذيب. لقد أردت أن أبيّن أن الشيء الأكثر إرعاباً بشأن التعذيب هو أن الأفراد الذين يمارسونه لا يجدونه قابلاً للجدل والمناقشة على الإطلاق. جميعهم ينتهون إلى تبريره وتسويغه. الشيء المريع هو أن أحداً، في البداية، لا يعتقد بأنه قد يمارس التعذيب يوماً ما أو حتى أن يتفرج عليه وهو يمارَس. بإظهار كيف أن المرء يبدأ في قبوله كأمر عادي، أنا أعرض الشيء الأكثر إرعاباً بشأنه (..) الجملة الأولى في الفيلم تقول: (وقت الفعل انقضى، وحان وقت التأمل). بناءً على ذلك، ثمة زاوية أو وجهة نظر نقدية. الفيلم بأسره عبارة عن فلاش باك: المرء لا يرى أبداً الحاضر».ويقول (المصدر نفسه): «الفيلم أشبه بيوميات سرّية، دفتر ملحوظات، أو مونولوج شخص يحاول أن يبرّر نفسه أمام كاميرا تتهمه تقريباً، كما يفعل الشخص أمام محام أو طبيب نفساني».
970x90
970x90