(بنا): للبحرين رسالتها التنويرية والحضارية، ويقدم مواطنوها والمقيمون على أرضها نموذجاً تاريخياً في العيش المشترك القائم على الاحترام المتبادل والتسامح، وها هي زيارة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، لدولة مدينة الفاتيكان، تؤكد على أن المملكة ستبقى وتظل ساحة للتعايش بين أصحاب الديانات والأعراق المختلفة، خصوصاً أن الزيارة تأتي عقب نجاح البحرين في تنظيم مؤتمر حوار الحضارات والثقافات.
دلالات الزيارة
واقع الأمر أن زيارة العاهل لدولة مدينة الفاتيكان تكلل جهود العمل الدبلوماسي الذي يقوم به جلالته لتعزيز انفتاح البحرين على دول العالم المختلفة، خصوصاً أنها تجيء وسط عدد من التحركات والزيارات والاستقبالات التي شملت العديد من الدول، حيث تم الالتقاء خلالها مع كبار المسؤولين سواء في دول الشرق أو في الغرب، واستهدفت توسيع الحيز الجغرافي لعلاقات البحرين مع شركائها، وتمتين شبكة تحالفاتها، وإيجاد فرص أكبر لمبادرات النمو للقطاع الأهلي الوطني.
ولا يخفى هنا أن زيارة جلالته للفاتيكان تمثل باكورة النتائج المهمة التي أسفر عنها مؤتمر حوار الحضارات والثقافات، الذي انتظمت فعالياته بالمملكة مؤخرا لمدة ثلاثة أيام، وشهد حضوراً كثيفاً من جانب رموز العمل الفكري والثقافي والديني في العالم، وصدر عنه وثيقة البحرين الختامية التي دعت ضمن ما دعت إلى العمل بكل الوسائل الممكنة لتعزيز دور وحضور الأديان في دعم الخير المشترك للإنسانية جمعاء، وهو ما يضعه العاهل على رأس أولوياته خلال الزيارة السامية.
يضاف إلى ذلك، أن الزيارة ـ وبما يتوقع أن تشهده وتسفر عنه من فعاليات ونتائج ـ ستبرز صورة البحرين ودورها الفاعل في مجال التحاور بين أصحاب الأديان والحضارات والثقافات المختلفة، سيما أن للمملكة حضورها المميز في هذا الشأن، ويُنظر لها عالمياً باعتبارها واجهة للتفاعل الإقليمي والدولي، وعامل محفز على التواصل بين الأضداد والأطراف والقوى المختلفة.
وهنا يُشار إلى حجم وطبيعة المشاركين ومضامين ونتائج المؤتمرات الثقافية والفكرية والحضارية التي قامت البحرين برعايتها واستضافتها وتنظيمها فوق أرضها خلال السنوات القليلة الماضية، والتي يأتي على رأسها: مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي الذي نظم العام 2002، ومنتدى الوسطية بين النظرية والتطبيق فبراير 2005، علاوة على منتدى حوار الحضارات في يناير 2008، فضلاً بالطبع عن المؤتمر الأخير المشار إليه سلفا، والذي حظي برعاية ملكية وحضوراً دينياً بارزاً، وكان له ولغيره الأثر الكبير في تعزيز دور المملكة وصورتها في مجال التحاور الحضاري والثقافي والديني بين الأمم.
كما أن الزيارة ضاعفت من الثقل الذي يقع على عاتق العاهل باعتبار جلالته قادراً على تولي زمام المبادرة في مجال التحاور بين أصحاب الديانات المختلفة، لا سيما أن لديه الرغبة والإصرار على تعزيز التفاهم بين الأديان، ويملك من العلاقات الجيدة والاتصالات الواسعة ما يمكنه من التواصل مع جميع الأطراف والقوى بشكل مباشر وسريع.
وللتأكيد على هذا المعنى، يبرز هنا موقف الملك، تأييده المطلق لمبادرة خادم الحرمين الشريفين للحوار بين الأديان، ودعمه الكبير أيضاً لما جاء في مؤتمر مدريد بهذا الخصوص، كما لا يمكن تجاهل مبادراته الكريمة والمتعددة في هذا السياق، والتي كان أبرزها العام 2008 خلال اجتماع كبير بالجمعية العامة للأمم المتحدة خُصص لدعم قضية التحاور والتسامح والتعايش، وكان بمشاركة عدد من رؤساء وممثلي الدول العربية والأجنبية، وأعلن فيها استعداد المملكة الواضح لاستضافة أمانة عامة لحوار الأديان والثقافات بحيث يكون مقرها البحرين، كما اقترح وقتها أن يتم تبني إعلان عالمي من قبل الأمم المتحدة يتضمن دور الأديان في إرساء السلام والعدالة والحرية في العالم.
علاقات متجذرة
لا شك أن الاعتبارات والدلالات السابقة لا تغفل الأهمية السياسية للزيارة التي تجيء في توقيت مهم بالنظر إلى عاملين، أحدهما يتعلق بالتحديات والتهديدات التي يتعرض لها العالم من جماعات تدثرت برداء الدين، والدين منها براء، خصوصا وان كلا الطرفين، البحرين والفاتيكان، لهما دورهما المعروف والمهم في نزع بذور الفتنة الناتجة عن استخدام الدين لأغراض سياسية أو حزبية أو طائفية ضيقة، ويواجهان بثقلهما النزعات التي تحاول تجيير الدين لحساب فئة دون أخرى أو لصالح هذا الغرض أو ذاك، وهو ما يتجلى واضحاً في موقف البحرين من ممارسات الإرهاب التي تضرب هنا وهناك، وموقف بابا الفاتيكان الجديد ـ الأرجنتيني المولد الذي نصب مارس 2013 في سدة البابوية ـ من موجات الكراهية والتعصب المستشرية في عدة بقاع من العالم.
العامل الآخر يتعلق بتاريخ العلاقات التي تربط كلا من البحرين والفاتيكان، والزخم الكبير الذي شهدته هذه العلاقات خلال السنوات القليلة الماضية، وهنا تبرز عدة الإشارات المهمة الآتية، الأولى: أن المملكة تعد الأولى في الخليج العربي التي استضافت وأنشأت أول كنيسة في المنطقة، وذلك العام 1939 في مدينة المنامة، في دلالة على ريادة البحرين في مجال التسامح الديني، فضلا عن حضور كافة الأديان وتعايش المؤمنين بها معاً في ساحة التفاعلات الداخلية، وتجذرها جميعاً في بنية المجتمع وروافده.
الثانية: أن تاريخ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، البحرين والفاتيكان، يعود إلى يناير العام 2000، هذا بجانب تعيين أول سفير لمملكة البحرين لدى الفاتيكان، وذلك بناءً على الحرص المشترك على تنمية وتطوير علاقات ثنائية أساسها الاحترام المتبادل وحرية ممارسات الديانات وضمان السيادة لكلا الجانبين، الثالثة: أن العاهل قام العام 2008 بزيارة لمقر الفاتيكان والتقى خلالها البابا، وأجرى مباحثات موسعة معه ومع المسؤولين هناك حول كثير من الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك.
الرابعة: نقل مقر النيابة الرسولية بالتعبير القانوني لشمال شبه الجزيرة العربية إلى المملكة في أغسطس 2012 لأسباب لوجيستية ولتسهيل خدمات الكنيسة الكاثوليكية ورعاياها في المنطقة، الأمر الذي قوبل بترحيب كبير من جانب المملكة والعالم أيضا، ما يعكس نجاحها في التواصل مع الغير، وقدرتها على الالتزام بالقضايا الإنسانية العالمية، وثقلها ومكانتها كواحة للتعايش السلمي بين مختلف الأديان والحضارات، ولعل تطور البحرين التاريخي يعكس هذا المعنى بجلاء، خاصة بالنظر لهذا التنوع الفكري والثقافي والديني الذي تحويه أرضها ويستظل بسمائها.
رسالة البحرين للعالم
رسالة التقارب بين البشر وتطبيقها على مستوى الإنسانية كلها، هي رسالة بحرينية بالأساس في وقت تتصاعد فيه حدة الأصوات الداعية إلى الفرقة والانعزال والتقوقع والحاضة على التطرف وممارسة العنف والإرهاب تحت اسم الدين، والتي تدفع ـأي هذه الأصوات الرافضة للعيش المشترك والقبول بالآخر ومن حيث لا تدريـ إلى تشويه صورة الأديان في عموميتها ورسالتها الروحية إلى العالم.
وحسناً فعلت البحرين وعاهلها المفدى بالتمسك برسالة الدين الإسلامي الحنيف الذي ينبذ الفرقة ويدعو للتعايش بين أصحاب الديانات المختلفة، ويرفض أي محاولة للإقصاء أو التهجير لأي دواع دينية، في رسالة واضحة المعالم والمضمون ضد أولئك الذين يحاولون تشويه صورة المنطقة والأوضاع بها بالنظر للتحديات الأمنية التي تواجه بعض دولها، والتي استشرى فيها العنف ذي المرجعية الدينية، وألقى بظلاله على فئات وطوائف بعينها، وأثار المخاوف من تهديدات تواجه مستقبل المنطقة والعالم الإسلامي الذي قدم ولا زال يقدم وسيبقى على ذلك نموذجا تاريخيا في العيش بين العرب وغيرهم من أصحاب الديانات والثقافات والأعراق المختلفة.
لا شك أن هذه هي الرسالة التنويرية الحضارية التي تحتل قمة أولويات العاهل، خلال زيارته للفاتيكان، والتي يسعى دائما جلالته لترسيخ صورة المنطقة في العموم، والبحرين بشكل خاص، كملتقى جامع للناس على مختلف أطيافهم ومشاربهم، ضامناً لهم حقوقهم في ممارسة شعائرهم.