كتب - أمين صالح:
لكن الأكثر إثارة للاهتمام، عندما كانت القوانين الاعتباطية لصنع الأفلام تتمزق عن طريق المصادفة، كما مع الصورة المروعة أو التجاور المتنافر – غالباً، على نحو ذي مغزى، هي نفسها أجازت الإفراط في نوعيات معينة بما فيها نوعية أفلام الرعب – الذي قد يثير لحظة من حلم يقظة سوريالي إلى درجة ما. وفقاً لبازوليني، هذه واحتمالات شعرية أخرى تصبح جلية على نحو متزايد في موجة جديدة معينة من الأفلام في زمنه، مثل فيلم أنتونيوني “الصحراء الحمراء” (1964).
مكونان “عنصران أساسيان” لـ “سينما الشعر” الجديدة هذه، مهمان بشكل خاص لغايات هذه الورقة.
الأول، على النقيض من الأسلوب الخفي الكلاسيكي لصنع الأفلام، فإن حضور الكاميرا يكون جلياً الآن بشكل مباشر. باستمرار يتم تذكير المتفرج بأنه يشاهد فيلماً، والفضل يعود إلى التطورات التكنولوجية مثل الكاميرات الخفيفة القابلة للتحريك، وعدسات الزوم التي تجعل حضورها محسوساً على الشاشة. على نحو معبر هنا، يعلق المخرج الإيطالي داريو أرجنتو على أهمية التقنيات الجديدة والإمكانيات التعبيرية التي تقدمها له، فيقول: “أحب شعرية التكنولوجيا. بالنسبة لي، التحسينات التقنية هي ملهمة ومؤثرة. ما إن أسمع عن كاميرا جديدة حتى تقترح علي قصةً ما”.
الثاني، الوعي الذي تعبر عنه وتجسده الكاميرا ليس مجرد الوعي الذاتي للشخصية، كما في التعبيرية التقليدية أو تراكيب اللقطة واللقطة المعاكسة، بل يمكن أن يكون أيضاً وعي صانع الفيلم نفسه. بإمكاننا أن نعي حضور صانع الفيلم خلف الكاميرا وخلف شخصياته، ملازماً نص الفيلم.
بازوليني يشرح هذه الفكرة الجديدة من خلال الإحالة إلى تشابه لغوي آخر، وهو الذي يتصل بالذاتي اللامباشر الحر في الأدب.. هذا يشير إلى شكل من أشكال الكتابة فيها أصوات المؤلف والشخصية تصبح مشوشة من خلال عدم استخدام المؤلف لغته “المحايدة” ولغة الشخصية، بين علامتي الاقتباس، لكن بدلاً من ذلك هناك لغة في مكان ما بينهما، مستخدماً ما يمكن أن يفسر بوصفه صوت الشخصية لكن من دون أن ينسب إلى طرف، وهو الذي تقدمه بوضوح علامتي الاقتباس. مع هذه الوسيلة، لم يكن هناك أي يقين بشأن الذاتية التي يتم التعبير عنها: هل هي ذاتية الشخصية أم المؤلف أم كليهما أم ولا واحد منهما. توكيد بازوليني، في تحليله لفيلم “الصحراء الحمراء”، كان على تطابق وجهة نظر الشخصية مع وجهة نظر المخرج.
بازوليني لم يكن يريد أن “يصور” الواقع فحسب. بالأحرى، أفلامه كانت تصبو إلى وضع المشاهدين في وضع يجعلهم يطرحون على أنفسهم أسئلة عن الواقع.
ومن مقالة طويلة للباحث ديفيد برانكاليوني عن الموضوع ذاته، نقتبس هذه الأجزاء بتصرف:
يميز بيير باولو بازوليني بين سينما الشعر وسينما النثر، ساعياً إلى إلقاء الضوء “نظرياً” على تعددية أبعاد الفيلم، وتطويرها “في تطبيقه عبر أفلامه”، محرراً إياها من مسائل الموضوعية أو الخط الطولي. هذا التمييز أيضاً يدعو المرء إلى اعتبار النص والصورة المتحركة مرتبطين بإحكام كما هما في المثال الذي يقدمه بازوليني والذي يشمل أعماله هو، إضافة إلى أعمال أنتونيوني، وعلى نحو قوي ومعبر، أعمال جان لوك جودار. إنه يصنف أفلامهما تحت تسمية سينما الشعر.
علاوة على ذلك، جودار نفسه يقوم بمثل هذا الربط بين الشعر والفيلم، ويقول في العام 1986: “السينما ينبغي أن تكون أكثر شعرية.. الشعرية بالمعنى الأرحب. كما ينبغي على الشعر نفسه أن يكون مفتوحاً وغير مطوّق بحواجز”.
إن تعبير “سينما النثر” لا يشير إلى الفيلم الوثائقي ولا حصرياً الواقعية الجديدة لمحاولاتها في فرض الموضوعية، والتي صارت هدفاً لنقد بازوليني في الجريدة الأدبية التي ساهم في تأسيسها، بل ما يمكن أن يؤول كنقيض للأشكال الجديدة في التعبير السينمائي الذي رآه هو كبيئة لعمله السينمائي. في الواقع، بازوليني تبنى عناصر أساسية من تطبيقات مخرجي الواقعية الجديدة، مثل العمل مع ممثلين غير محترفين، عوضاً عن نجوم السينما واستعارة تقنيات سردية من الفيلم الوثائقي، خصوصاً الشكل الإيجازي من أشكال رواية القصص والذي يختزل القصص إلى شذراتها المحددة.
بازوليني وجد في الأفلام الجديدة، التي انتجت في السنوات الأولى من الستينيات، عناصر مشتركة من الأسلوب والتقنية، والتي أتاحت للمخرجين حرية أكبر في التعبير عن ذواتهم.
بالنظر إلى الطبيعة الواقعية لصنع الأفلام، والإجراءات العملية، فإن مفهوم بازوليني بشأن السينما الشعرية قد يبدو متناقضاً ظاهرياً. لكن ربما العائق في ربط الشعر بالفيلم، بالنسبة الكثيرين، يكمن في مدى احتمال الشعر لأن يكون مفهوماً على نحو لائق كفعالية فكرية. المشكلة كما يبدو تكمن في النظر إلى الصورة الشعرية بوصفها شكلاً من أشكال الفكر.
بازوليني يستجوب الموضوعية المفترضة للعدسات من خلال ترشّح القصة، وخلق مسافة خلاقة بعيداً عنها عبر لقطات قد لا تكون مرئية من وجهة نظر الشخصيات، بل ما يريد المخرج من المشاهدين أن يروه وذلك لما تكشف عنه كتعليق بصري، بحيث يكون واقع الفيلم وفيلم الواقع كلاهما مسلم بهما كجزء من الحقيقي.