كتب- جعفر الديري:
قال الحاج محمد؛ إلى رحمة الله يا زوجتي العزيزة، ثمّ انفجر بالبكاء بعد مجاهدته إظهار الحزن أمام أبنائه، حتى إذا سمع أذان الفجر، تحامل على نفسه، فتوضأ واتّجه إلى المسجد.
كانت روحه في غشاء قاتم من الحزن؛ فالعمر الذي قضاه مع زوجته شمل كلّ ساعة من ساعات حياته، وكلّ شبر من القرية، حتى هذا المسجد يذكّره بها. هنا كانا يقضيان ساعات السحر في قراءة القرآن والأذكار حتى بزوغ الفجر.
لكنه يخرج من المسجد هذا الفجر دون زوجته، رفيقة أربعين عاماً بحلوها ومرّها، وبعد أن اعتادت نفسه رؤيتها ليل نهار، والاستماع إلى أحاديثها وخفّة دمها وهي تسرد حكاياتها، وابتسم ثم عاد وجهه مكشّرا فهو حزين، وأحسّ بالغثيان وبثقل يشمل قدميه فكأنّهما تنوءان بحمله، وسقط إلى الأرض.
فتح عينيه فوجد نفسه على سريره، وبالقرب منه ولداه حسن وجعفر، أمّا ابنته فكانت تقف قرب الباب في عباءتها السوداء تنظر إليه بحزن، وقد انحدرت دموعها على وجنتيها.
ابتسم لمرأى ابنته، فأقبلت وطبعت على رأسه قبلة كما قبّلت يده...
- ماذا قال الطبيب؟!
- تلزمك الراحة أبي
فقال في مرارة...
- استعنّا بالله على البلاء...
- الحاج أبو علي ينتظر منذ مدّة
- أدخله بني.
دخل أبو علي بابتسامته الطيبة، فلاذ بالصمت لدقائق...
- كانت نعم الزوجة وهيهات أن أجد مثلها، ما أتعس الأيام التي سأعيشها بدونها
- ...
- بالأمس كانت تصحبني إلى المسجد، أما اليوم فلا رفيق لي سوى المرض
- ستجدني إلى جانبك
- فيك الخير والبركة غير أنّها كانت سلوى حياتي
وغادر الصديق العزيز الدار، بعد أنّ أحسّ بحاجته للراحة. هو نفسه انقلبت حياته بعد موت زوجته، ولايزال رغم مرور 3 أعوام يثير شفقة من يراه بلحيته الكثّة البيضاء، أمّا هو فيعلم أن العيون التي كانت تلحظه بإكبار، ستراه منذ اليوم هرماً يسير إلى القبر.
وقال لنفسه؛ الآن ستسير الحياة من سيئ إلى أسوأ، وغداً لن يمرّ يوم دون أن يشعر فيه بالانحدار، والعزاء في الذكريات وبرّ الأبناء، غير أنّ رفيق الحياة كان حيّاً يرزق، يستمدّ منه شعوره بالحياة.
وأحسّ بالحاجة إلى النوم، وحاول أن ينقلب على جانبه الأيمن، إلاّ أنّ ألم الظهر منعه من ذلك. حتّى في هذا الوضع كان يستعين بزوجته ويعينها، لكنه اليوم لوحده.
ووجد نفسه تنساق إلى البكاء، فأخذ بمناداة زوجته بكلمات لطاف طالما أترعت قلبها سعادة.
ثم قال في صوت خنقته العبرة:
- أين أنت يا أم حسن؟ لماذا تركتني لوحدي؟!
- ألم تعديني أنك ستكونين إلى جانبي دائماً؛ ها أنت تخلّفيني لوحدي!.
ثم أجهش في البكاء، حين انتبه على صوت حبيب إليه:
- أنا قريبة منك يا أبا حسن، لم أتخل عنك لحظة!.
وارتعش جسمه، وتسارعت دقّات قلبه، وأخذ بالتطلّع في كلّ شيء حواليه، لكنه لم يجد شيئاً. وأحسّ بأنّه أهون حالاً من الطفل؛ إذ لا طعم لأي شيء، فكأنّ زوجته كانت معنى الحياة انتهى بموتها. إلا أنّ الصوت وصل إليه قوياً هذه المرّة:
- لماذا أنت مستاء هكذا؟! إنها إرادة الله؛ ولا رادّ لأمره.
وفتح عينيه فوجدها أمامه، بابتسامتها العذبة، وشعر وكأنّ الحياة تفتّحت أزهارها، وكأنّ العمر انفتحت فيه شرفة جديدة.
قفز من على سريره، فكأنّه شاب لا يجاوز العشرين من عمره، وحاول أن يرمي بنفسه على زوجته، إلا أنّها اختفت...
وأخذ بالصياح:
- أم حسن، إلى أين ذهبت يا زوجتي العزيزة؟!
واتّضحت له الصورة شيئاً فشيئاً، ووجد زوجته أمامه. أمسك بيدها وقال بلهفة:
- كنت أعلم أنك لا تطيقين فراقي!
لكن زوجته بدلاً من أن تردّ عليه، راحت تلثم يده بمودّة وهي تبكي بحرقة. حتى تبيّن أنها ابنته. لكنه لم يصدّق ما حدث:
- أبداً.. لم يكن حلماً ما رأيت!
واعتصم ابناه بالصمت الحزين، فيما استرسلت ابنته في البكاء حتى أوشكت أن تغيب عن الدنيا.
- صدّقوني كانت أمّكم تحدّثني منذ قليل!
وانخرط الجميع في البكاء...
- لقد كانت هنا، كانت ابتسامتها رائعة كما عهدتموها.
أخد حسن بيد أبيه وطبع عليها قبلة...
- نحن نصدّقك يا أبي،، غير أنّ أمي تخصّك بالزيارة لوحدك
- لقد كانت هنا!
- نعلم أنّها لا تطيق فراقك،، سنتركك لوحدك لكي تعاود زيارتك.
تمت