كتب - أمين صالح:
عبر سلسلة من الأحلام والتخيلات والرؤى التي يعجّ بها فيلم «سحر البورجوازية الخفي» The Discreet Charm of the Bourgeoisie ، يقدّم المخرج الإسباني لويس بونويل رؤية هجائية للبورجوازية، ونقداً ضارياً لأعمدة المجتمع الفاسد. وعبر الدعابة السوداء يصوّر الانهيار التدريجي لعوالمهم التي يحسبون أنها محصّنة ومحمية.
ست شخصيات بورجوازية، ذات نفوذ سياسي واجتماعي، يجدون أنفسهم، عبر سلسلة غريبة من الظروف والمصادفات والملابسات، عاجزين عن الجلوس معاً حول المائدة لإنهاء وجبة عشاء واحدة. إنهم ينتقلون من مكان إلى آخر دون أن يتسنى لهم تحقيق ذلك. بونويل يقدم هنا، بشكل ساخر ولاذع، عالماً فيه حتى أبسط الأفعال – تناول الطعام – يصبح مستحيلاً أو عسيراً، ويتعرّض للمقاطعة أو الإجهاض.
يبدأ الفيلم بوصول عدد من الأشخاص، بينهم سفير إحدى جمهوريات أمريكا اللاتينية، وهو أيضاً مهرّب دولي للمخدرات، إلى بيت صديق لهم دعاهم لتناول العشاء، لكن يتضح أنهم أخطئوا في الموعد، حيث من المفترض أن يأتوا في يوم آخر، لذلك يعتذرون ويغادرون. يذهبون إلى مطعم قريب ليكتشفوا وجود تابوت في القاعة المجاورة، بداخله جثة صاحب المطعم، في انتظار قدوم الحانوتي. الأصدقاء يغادرون وقد فقدوا شهيتهم.
في ظهيرة يوم آخر، يدخلون مقهى مزدحماً ويطلبون شاياً وقهوةً وشوكولا ساخنة، لكن طلباتهم غير متوفرة، الشيء الوحيد المتوفر هو الماء. يدنو جندي شاب من طاولة المجموعة ويسرد قصة مأساوية عن طفولته، حيث الأم الميتة وعشيقها القتيل يظهران للصبي، يخبرانه أن العشيق هو أبوه الحقيقي، وأن الرجل الشرير الذي يعيش معه هو قاتل أبيه الحقيقي، وأن عليه أن يثأر لهما. عندئذ يقوم الصبي بتسميم الأب المزعوم.
في مشهد آخر، يجلسون لتناول العشاء، لكن يقاطع ذلك دخول عدد من الجنود الذين يقومون بمناورات في الخارج. العشاء يتأخر، بينما المضيفة تعد طعاماً إضافياً للجنود الذين يضطرون فجأة للمغادرة.
جندي آخر يأتون به ليسرد حلماً رآه: نراه ضمن أجواء مرعبة يلتقي بأشخاص موتى في شارع خال ومخيف، فيصيح منادياً أمه.
حتى في الحلم لا يتسنى لهم تناول الوجبة، إذ يكتشفون أن الدجاج المقدم إليهم مصنوع من المطاط.
في أحد المشاهد، أثناء جلوسهم حول المائدة، فجأة وعلى نحو غير متوقع، ترتفع ستارة، كما لو على خشبة مسرح، وهم أشبه بممثلين مرتبكين وحائرين، فيما نرى جمهوراً جالساً في الصالة يراقبهم في استياء، ويتصايح باستهجان صاخب، لأنهم لم يحفظوا حواراتهم.
قسيس يُستدعى إلى منزل رجل عجوز (بستاني) يحتضر لكي يستمع إلى اعترافه ويخلصه من آثامه. البستاني يعترف أنه قتل والديّ القسيس اللذين وظفاه وأحسنا إليه. القسيس، بعد أن يمنحه الغفران، يطلق النار عليه ويرديه قتيلاً.
يتعرّض هؤلاء الأصدقاء للإهانة والسجن واستفزاز الثوار.. حتى يتحطم توازنهم أخيراً، ويبدون مرتبكين، حائرين، مشوشين. وواضح أن بونويل يستمتع بتوريط شخصياته والتلاعب بهم وبالظروف المحيطة.
ولأنهم ينتمون إلى الطبقة ذاتها، فإن التماثلات بينهم هي أكثر من الاختلافات. إنها شخصيات متفسخة، أنانية، قاسية، لا يعوّل عليها ولا يمكن التنبؤ بمدى قسوتها. إنهم يحلمون بكوابيس بعضهم البعض، أو يكملونها على نحو قابل للتبادل.
أربعة من المجموعة يرتكبون أفعالاً شريرة، غير قانونية، مثل جريمة قتل وتهريب مخدرات وغيرهما، لكن يفلتون بسهولة من العقاب، لتوفر حصانة ما. وعندما يلقى القبض عليهم، إثر غارة مفاجئة يقوم بها مفتش شرطة نزيه ومتحمس، فإنه يتلقى مكالمة من وزير الداخلية يطلب منه إخلاء سبيلهم على الفور.
في هذا الفيلم نجد الثيمات الأثيرة، المتكررة، عند بونويل: التوكيد على الطبيعة الزائلة لأسلوب الحياة عند الطبقات العليا، شراك التعلق المرَضي بالأشياء، الحسية (الإيروسية) الهازلة، كبح أي محاولة لإشباع الحاجات الجسمانية الأساسية، الشخصيات المستغرقة في شؤونها الذاتية والتي تحاول بأي ثمن أن تظل في عالمها الثري والمترف بمنأى عن العالم الخارجي الذي يسعى إلى تمزيق عالمها. وأسلوبياً، نجد البناء المفكك الذي يتيح مساحة لما هو حلمي وفنتازي بالتسرب بين الخط السردي بحيث يبدو كما لو أنه جزء من السرد.
بونويل، في أكثر من موضع، يقطع سياق السرد ليظهر لنا لقطات للشخصيات الرئيسة الست وهم يسيرون بلا هدف عبر طريق عام ممتد على نحو لا متناه. ترافق هذه اللقطات أصوات ضاجة أشبه بالأزيز كأنها أصوات طائرات أو ما شابه. وهذه اللقطات تعطي إحساساً بالحركة والركود في آن، حيث الأشخاص يستمرون في السير دون توقف لكن دون أن يصلوا إلى أي مكان.. تماماً كما يحدث في الحلم. البورجوازية هنا، رغم كل العوائق والصدمات، تسير غير مكترثة بما يحدث خارج محيطها، لا يمسّها شيء وغير قابلة للتغيّر.
وبمثل هذه اللقطات ينهي فيلمه. في هذه اللقطات الختامية لا نسمع أصواتاً على الإطلاق، غير أننا نسمع بعد ذلك، وعبر شريط الصوت، صيحات حشد كما لو ضمن حدث رياضي. هنا، وكما في مواضع أخرى مختلفة، يقدّم بونويل توظيفاً سوريالياً لعلاقة الصوت بالصورة.
لكن الفيلم ليس سوريالياً محضاً في مجمله، كما الحال مع فيلمه الأول «كلب أندلسي»، الذي كان مؤلفاً كلياً من صور حلمية غير متصلة ببعضها، بينما في «سحر البورجوازية» يقسم بونويل العالم إلى واقع الشخصيات الست وهم يقومون بمحاولات يائسة لتناول العشاء معاً، والحكايات الملتوية للأحلام المستقلة وتلك المتداخلة مع بعضها، والتي تفضي إلى إعاقة الفعل الواقعي أو مقاطعته.
الفيلم يتحرك على مستويات متعددة: الواقع والحلم والمتخيل. هنا لا نستطيع أن نصدّق ما يقوله الأفراد، ولا نستطيع أن نتنبأ بما سوف يفعلونه لاحقاً. الحدود بين الأحلام والقصص المروية والأحداث تتعرض للمحو، والمتفرج هنا مضطر إلى بذل جهد في محاولة التمييز بين واقع العمل (ما يحدث حقاً للمجموعة) وما هو متخيل وحلمي، حيث اللحظات السوريالية تبدو طبيعية تماماً في سياق الفيلم.
الأحلام تلعب دوراً هاماً وأساسياً في الفيلم لأنها تساعد على الكشف عن القوى العنيفة المكبوحة القاطنة في اللاوعي. ولأن بونويل يعتبر الحلم جزءاً من الحياة اليومية فإنه يسعى إلى إلغاء التخم الفاصل بين عوالم الوعي واللاوعي، الحقيقي والحلمي أو التخيلي.
حاز الفيلم على أوسكار أفضل فيلم أجنبي، وجائزة الجمعية الوطنية لنقاد السينما.
عبر سلسلة من الأحلام والتخيلات والرؤى التي يعجّ بها فيلم «سحر البورجوازية الخفي» The Discreet Charm of the Bourgeoisie ، يقدّم المخرج الإسباني لويس بونويل رؤية هجائية للبورجوازية، ونقداً ضارياً لأعمدة المجتمع الفاسد. وعبر الدعابة السوداء يصوّر الانهيار التدريجي لعوالمهم التي يحسبون أنها محصّنة ومحمية.
ست شخصيات بورجوازية، ذات نفوذ سياسي واجتماعي، يجدون أنفسهم، عبر سلسلة غريبة من الظروف والمصادفات والملابسات، عاجزين عن الجلوس معاً حول المائدة لإنهاء وجبة عشاء واحدة. إنهم ينتقلون من مكان إلى آخر دون أن يتسنى لهم تحقيق ذلك. بونويل يقدم هنا، بشكل ساخر ولاذع، عالماً فيه حتى أبسط الأفعال – تناول الطعام – يصبح مستحيلاً أو عسيراً، ويتعرّض للمقاطعة أو الإجهاض.
يبدأ الفيلم بوصول عدد من الأشخاص، بينهم سفير إحدى جمهوريات أمريكا اللاتينية، وهو أيضاً مهرّب دولي للمخدرات، إلى بيت صديق لهم دعاهم لتناول العشاء، لكن يتضح أنهم أخطئوا في الموعد، حيث من المفترض أن يأتوا في يوم آخر، لذلك يعتذرون ويغادرون. يذهبون إلى مطعم قريب ليكتشفوا وجود تابوت في القاعة المجاورة، بداخله جثة صاحب المطعم، في انتظار قدوم الحانوتي. الأصدقاء يغادرون وقد فقدوا شهيتهم.
في ظهيرة يوم آخر، يدخلون مقهى مزدحماً ويطلبون شاياً وقهوةً وشوكولا ساخنة، لكن طلباتهم غير متوفرة، الشيء الوحيد المتوفر هو الماء. يدنو جندي شاب من طاولة المجموعة ويسرد قصة مأساوية عن طفولته، حيث الأم الميتة وعشيقها القتيل يظهران للصبي، يخبرانه أن العشيق هو أبوه الحقيقي، وأن الرجل الشرير الذي يعيش معه هو قاتل أبيه الحقيقي، وأن عليه أن يثأر لهما. عندئذ يقوم الصبي بتسميم الأب المزعوم.
في مشهد آخر، يجلسون لتناول العشاء، لكن يقاطع ذلك دخول عدد من الجنود الذين يقومون بمناورات في الخارج. العشاء يتأخر، بينما المضيفة تعد طعاماً إضافياً للجنود الذين يضطرون فجأة للمغادرة.
جندي آخر يأتون به ليسرد حلماً رآه: نراه ضمن أجواء مرعبة يلتقي بأشخاص موتى في شارع خال ومخيف، فيصيح منادياً أمه.
حتى في الحلم لا يتسنى لهم تناول الوجبة، إذ يكتشفون أن الدجاج المقدم إليهم مصنوع من المطاط.
في أحد المشاهد، أثناء جلوسهم حول المائدة، فجأة وعلى نحو غير متوقع، ترتفع ستارة، كما لو على خشبة مسرح، وهم أشبه بممثلين مرتبكين وحائرين، فيما نرى جمهوراً جالساً في الصالة يراقبهم في استياء، ويتصايح باستهجان صاخب، لأنهم لم يحفظوا حواراتهم.
قسيس يُستدعى إلى منزل رجل عجوز (بستاني) يحتضر لكي يستمع إلى اعترافه ويخلصه من آثامه. البستاني يعترف أنه قتل والديّ القسيس اللذين وظفاه وأحسنا إليه. القسيس، بعد أن يمنحه الغفران، يطلق النار عليه ويرديه قتيلاً.
يتعرّض هؤلاء الأصدقاء للإهانة والسجن واستفزاز الثوار.. حتى يتحطم توازنهم أخيراً، ويبدون مرتبكين، حائرين، مشوشين. وواضح أن بونويل يستمتع بتوريط شخصياته والتلاعب بهم وبالظروف المحيطة.
ولأنهم ينتمون إلى الطبقة ذاتها، فإن التماثلات بينهم هي أكثر من الاختلافات. إنها شخصيات متفسخة، أنانية، قاسية، لا يعوّل عليها ولا يمكن التنبؤ بمدى قسوتها. إنهم يحلمون بكوابيس بعضهم البعض، أو يكملونها على نحو قابل للتبادل.
أربعة من المجموعة يرتكبون أفعالاً شريرة، غير قانونية، مثل جريمة قتل وتهريب مخدرات وغيرهما، لكن يفلتون بسهولة من العقاب، لتوفر حصانة ما. وعندما يلقى القبض عليهم، إثر غارة مفاجئة يقوم بها مفتش شرطة نزيه ومتحمس، فإنه يتلقى مكالمة من وزير الداخلية يطلب منه إخلاء سبيلهم على الفور.
في هذا الفيلم نجد الثيمات الأثيرة، المتكررة، عند بونويل: التوكيد على الطبيعة الزائلة لأسلوب الحياة عند الطبقات العليا، شراك التعلق المرَضي بالأشياء، الحسية (الإيروسية) الهازلة، كبح أي محاولة لإشباع الحاجات الجسمانية الأساسية، الشخصيات المستغرقة في شؤونها الذاتية والتي تحاول بأي ثمن أن تظل في عالمها الثري والمترف بمنأى عن العالم الخارجي الذي يسعى إلى تمزيق عالمها. وأسلوبياً، نجد البناء المفكك الذي يتيح مساحة لما هو حلمي وفنتازي بالتسرب بين الخط السردي بحيث يبدو كما لو أنه جزء من السرد.
بونويل، في أكثر من موضع، يقطع سياق السرد ليظهر لنا لقطات للشخصيات الرئيسة الست وهم يسيرون بلا هدف عبر طريق عام ممتد على نحو لا متناه. ترافق هذه اللقطات أصوات ضاجة أشبه بالأزيز كأنها أصوات طائرات أو ما شابه. وهذه اللقطات تعطي إحساساً بالحركة والركود في آن، حيث الأشخاص يستمرون في السير دون توقف لكن دون أن يصلوا إلى أي مكان.. تماماً كما يحدث في الحلم. البورجوازية هنا، رغم كل العوائق والصدمات، تسير غير مكترثة بما يحدث خارج محيطها، لا يمسّها شيء وغير قابلة للتغيّر.
وبمثل هذه اللقطات ينهي فيلمه. في هذه اللقطات الختامية لا نسمع أصواتاً على الإطلاق، غير أننا نسمع بعد ذلك، وعبر شريط الصوت، صيحات حشد كما لو ضمن حدث رياضي. هنا، وكما في مواضع أخرى مختلفة، يقدّم بونويل توظيفاً سوريالياً لعلاقة الصوت بالصورة.
لكن الفيلم ليس سوريالياً محضاً في مجمله، كما الحال مع فيلمه الأول «كلب أندلسي»، الذي كان مؤلفاً كلياً من صور حلمية غير متصلة ببعضها، بينما في «سحر البورجوازية» يقسم بونويل العالم إلى واقع الشخصيات الست وهم يقومون بمحاولات يائسة لتناول العشاء معاً، والحكايات الملتوية للأحلام المستقلة وتلك المتداخلة مع بعضها، والتي تفضي إلى إعاقة الفعل الواقعي أو مقاطعته.
الفيلم يتحرك على مستويات متعددة: الواقع والحلم والمتخيل. هنا لا نستطيع أن نصدّق ما يقوله الأفراد، ولا نستطيع أن نتنبأ بما سوف يفعلونه لاحقاً. الحدود بين الأحلام والقصص المروية والأحداث تتعرض للمحو، والمتفرج هنا مضطر إلى بذل جهد في محاولة التمييز بين واقع العمل (ما يحدث حقاً للمجموعة) وما هو متخيل وحلمي، حيث اللحظات السوريالية تبدو طبيعية تماماً في سياق الفيلم.
الأحلام تلعب دوراً هاماً وأساسياً في الفيلم لأنها تساعد على الكشف عن القوى العنيفة المكبوحة القاطنة في اللاوعي. ولأن بونويل يعتبر الحلم جزءاً من الحياة اليومية فإنه يسعى إلى إلغاء التخم الفاصل بين عوالم الوعي واللاوعي، الحقيقي والحلمي أو التخيلي.
حاز الفيلم على أوسكار أفضل فيلم أجنبي، وجائزة الجمعية الوطنية لنقاد السينما.