كتب - علي الشرقاوي:
إن كان التوثيق كما يقول المتخصصون، هو علم من علوم التاريخ لحفظ المعلومات وتنسيقها وتبويبها وترتيبها وإعدادها، لجعلها مادة أولية للبحث والفائدة، وهو علم مهم لحفظ النتاج الإبداعي الإنساني، أو هو حفظ الأحداث التاريخية والمعلومات العلمية ونقلها من الماضي إلى الحاضر ثم إلى المستقبل، وإلى الأشخاص الذين يمكنهم الاستفادة منها، فإن ما قام به الباحث البحريني الكبير صقر المعاودة في كتابه (الصحافة البحرينية – تاريخ وعطاء) هو من أهم الأعمال التي يحتاجها تاريخ مملكة البحرين في هذا المجال المهم من تاريخنا الثقافي، إذ إن التعرف على ما كان في الماضي القريب، هو بداية على ما هو كائن الآن، وما سيكون عليه المستقبل.
نقرأ على غلاف كتاب المعاودة «يصادف هذا العام الذكرى الخامسة والسبعين لصدور أول صحيفة بحرينية، وذلك عندما أصدر الأديب عبدالله بن علي الزايد جريدة (البحرين) مطلع مارس من العام 1939، وهي أول صحيفة سياسية أسبوعية تصدر في منطقة الخليج العربي، وسط تحدي كثير من الصعاب باختلاف أنواعها في سبيل إعلاء شأن البلاد عن طريق الكلمة والتعبير عن الرأي المستنير المخلص للدين والوطن والعروبة، ليأتي بعد ذلك من يكمل الرسالة وهم مجموعة من المثقفين أخذوا على عاتقهم تأسيس الصحف في الخمسينات التي تعد الفترة الذهبية للصحافة البحرينية، لكونها قامت بدور بارز في نشر وتعزيز الدور الوطني وأعطت مجالات الأدب والفكر اهتماماً كبيراً، فلاقت نجاحاً وانتشاراً واسعاً وصل صداه إلى الدول العربية الشقيقة وبالخصوص مجلة (صوت البحرين) عندما تفاعل معها وكتب فيها العديد من الكتاب والشعراء العرب. وقد تواصلت الجهود وظهرت العام 1976، جريدة (إخبار الخليج) كأول صحيفة يومية تصدر في البلاد، ثم يأتي عهد جلالة الملك، الذي أولى الصحافة اهتماماً كبيراً، وأطلق حريات التعبير فاتسعت مساحتها، وأصبحت الصحافة قوة مؤثرة. ويأتي هذا الكتاب ليوثق تاريخ وعطاء الصحافة البحرينية عبر حقبة زمنية مضى عليها 75 عاماً، على أمل أن يكون مرجعاً يستفيد منه الإعلاميون والباحثون.
المثقفون بداية القرن
حول بدايات النهضة الثقافية في البحرين، نقرأ للمعاودة: لم يكن أدباء ومثقفو البحرين بعيدين عن وسائل الثقافة والاطلاع عليها، فقد اتصلوا بالخارج وراسلوا زملاءهم من الأدباء في الخليج والوطن العربي، وكذلك كتبوا وراسلوا الصحف والمجلات في مختلف الدول العربية، يستفسرون ويسألون عن قضايا ومسائل عديدة كالشيخ حسين بن مشرف الذي راسل مجلة المقتطف العام 1899، والشيخ مقبل الذكير والأديب ناصر الخيري وغيرهم من المثقفين.
وكانت البداية الحقيقية لانتشار المؤسسات الأدبية والثقافية، بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عن طريق مجالس الشيوخ والتجار والوجهاء، التي كانت بمثابة أندية وصالونات ثقافية بمفهوم اليوم، فكان مجلس الأديب الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة الذي لقب بشيخ أدباء البحرين، منتدى أدبياً يستقبل خيرة مثقفي البلاد الذين يتناقشون في شتى ألوان الثقافة والعلوم ويتبادلون مختلف الأخبار المحلية والخارجية التي تصلهم نم خلال الصحف والمجلات التي اشترك بها الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، فقد تعاون مع الشيخ مقبل الذكير على طلب الاشتراك في الصحف والمجلات المصرية كالمقتطف والهلال والمنار والشورى والمقطم.
نشاط الأندية الثقافية
ويضيف المعاودة، بشأن الأندية الثقافية: كان الظهور الفعلي للأندية الأدبية والثقافية في البحرين مع تأسيس نادي «إقبال أوال» بالمنامة عندما تأسيس في العام 1913، وكان مديره الشيخ محمد صالح خنجي وأمين سره الأديب ناصر الخيري، ولكنه لم يستمر طويلاً، ثم جاء بعده العام 1920، النادي الأدبي بالمحرق الذي ترأسه الشيخ محمد بن عبدالله آل خليفة، فأقام الحفلات والمحاضرات، ومن أبرزها تلك التي استضاف فيها عدداً من الأدباء العرب، ومنهم الأديب عبدالعزيز الثعالبي والرحالة أمين الريحاني والشيخ محمد الشنقيطي، ومن أبرز ما قام به النادي المشاركة في تكريم أمير الشعراء أحمد شوقي العام 1927، بإرسال هدية له وهي عبارة عن نخلة من الذهب واللؤلؤ، مرفق معها قصيدة نظمها الشاعر الكبير خالد الفرج.
وكان للمنتدى الإسلامي الذي تأسس العام 1928، في المنامة برئاسة الشيخ مبارك بن حمد آل خليفة نجل حاكم البحرين آنذاك دور ثقافي مهم وفاعل، فقد اهتم المنتدى برفعة الإسلام وشؤون المسلمين عن طريق إقامة المحاضرات والندوات في المناسبات الدينية، وكان أبرز المتحدثين فيها الأديب الكويتي الشيخ عبدالعزيز الرشيد صاحب مجلة «الكويت» الذي اتخذ البحرين مستقراً له حوالي ثلاث سنوات، والذي أقام له المنتدى احتفالاً ترحيباً به عند وصوله البحرين.
ومن النشاطات الثقافية التي برزت كذلك في البحرين وأخذت اهتماماً كبيراً النشاط المسرحي الذي بدأ في مدرسة الهداية الخليفة بالمحرق العام 1925، ثم بالمدارس الأهلية كالمدرسة الأهلية بالمنامة لصاحبها الأديب إبراهيم العريض، ومدرسة الإصلاح الأهلية بالمحرق لصاحبها الأستاذ عبدالرحمن المعاودة ثم انتشر بعدها في الأندية الوطنية كنادي البحرين والنادي الأهلي ونادي العروبة ونادي الطلبة الخليفي.
ومن أبرز أدباء وشعراء البحرين الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة، والشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة وناصر الخيري وجاسم الشيراوي وعبدالله الزايد وسلمان التاجر وإبراهيم العريض وعبدالرحمن المعاودة، ورضي الموسوي والشيخ أحمد بن محمد آل خليفة.
بدايات المطابع
يأخذنا المعاودة في رحلة التوثيق الشيقة والتي طرحها بلقطات بانورامية، تحاول أن تجمع كل شيء في تلك الفترة، مشيراً إلى أن المطابع في مملكة البحرين قامت بدور فاعل في نشر شتى مجالات العلوم والثقافة والأدب، فقد تأسست أول مطبعة فيها العام 1913، عندما افتتح أحمد عبدالواحد فرامرزي وميرزا علي جواهري مطبعة حجرية في العاصمة المنامة، سميت «مطبعة البحرين»، ومن المعروف أن أهل الخليج والجزيرة العربية كانوا يطبعون كتبهم ومطبوعاتهم في الهند والعراق والقاهرة. ومن أهم ما طبعته المطبعة هو كتاب «مجاري الهداية» للربان راشد بن فاضل البنعلي 10 يناير 1923، ويعتبر أول كتاب يطبع في البحرين.
مؤسسة الصحافة
ويتابع صاحب كتاب (الصحافة البحرينية): كان للمطابع دور مهم وعامل مشجع لإصدار الصحف المحلية وذلك عندما أسس الأديب عبدالله بن علي الزايد مطبعته العام 1936، وأسماها «مطبعة البحرين ومكتبتها» فمنها خرجت للنور أول صحيفة أسبوعية سياسية في منطقة الخليج العربي العام 1939، بعدها جاءت «مطبعة المؤيد» لصاحبها مؤيد أحمد المؤيد التي أسسها العام 1949، وفيها طبعت أغلب صحف الخمسينات منها: صوت البحرين، الخميلة، القافلة، النشرة الرسمية، الوطن، الميزان، الشعلة، هنا البحرين.
ثم تأسست المطبعة الشرقية العام 1952 لصاحبها عيسى الزيرة، التي طبعت فيها جريدة «النجمة الأسبوعية» التابعة لشركة نفط البحرين «بابكو»، إضافة إلى التقارير السنوية التي تصدرها الشركة نفسها في طبعة فاخرة وملونة ولول مرة في البحرين، بعدها وفي العام 1957 افتتحت مطبعة أوال التي طبعت «الجريدة الرسمية» وصحيفة «صدى الأسبوع»، وفي العام 1960، اشترى صاحب المطبعة الشرقية عيسى الزيرة مطبعة المؤيد وأسماها «مطبعة دلمون».
بعد ذلك وفي العام 1965، افتتحت المؤسسة العربية للطباعة والنشر التي ساهمت في طباعة العديد من الصحف البحرينية منها: الأضواء، صدى الأسبوع، المجتمع الجديد، المواقف، الرياضة، أخبار الخليج وغيرها.
أما في العام 1978، فافتتحت المطبعة الحكومية التابعة لوزارة الإعلام آنذاك «هيئة شؤون الإعلام» حالياً، التي تطبع فيها الآن مجلة هنا البحرين والجريدة الرسمية، إضافة إلى المطبوعات الرسمية الخاصة بالدولة والكتب بأنواعها. وبعد ذلك بدأت بعض من المؤسسات الصحافية بتأسيس مطابع خاصة بها لطباعة صحفها ومنها دار أخبار الخليج عندما افتتحت مطبعتها العام 1987، وطبعت فيها جريدة أخبار الخليج و»Gulf Daily»، ثم افتتحت مؤسسة الأيام للصحافة والنشر أيضاً مطبعتها الخاصة العام 1990، لتطبع فيها صحيفتي الأيام و»Trebune Bahrain»، وفي العام 2006، افتتحت دار الوسط للصحافة مطبعتها لتطبع جريدة الوسط التي تصدرها وبعدها افتتحت العام 2011، المطبعة الخاصة بجريدة «الوطن».
مطبعة البحرين ومكتبتها
ويخصص المعاودة مادة في الكتاب لمطبعة البحرين، مشيراً إلى أن مؤسسها هو الأديب عبدالله بن علي الزايد العام 1936، وذلك عندما تقدم بخطاب إلى مستشار حكومة البحرين تشارلز بلغريف 17 أغسطس 1935، مبيناً فيه عن استعداده لإنشاء مطبعة، وأنه سيتقيد بالشروط التي تعهد بها السيد «قيوم قاسمجي» الذي وقع اتفاقية مع حكومة البحرين بإنشاء مطبعة ولكنه لم يستطع تأسيسها، وأنه في ظل ما وصلت إليه البحرين من مركز رفيع فإنه من الضروري إنشاء مطبعة بدلاً من قيام الأهالي بالطباعة في الهند والعراق. وعليه وبعد أسبوع واحد تلقى «الزايد» رداً من المستشار «بلغريف» بالموافقة مع التنبيه بتجنب طبع المقالات المثيرة للآراء.
الجلاهمة في العراق
ويواصل المعاودة: من ضمن استعدادات «الزايد» لبدء العمل بمشروع المطبعة، بعث بقريبه ورفيق دربه راشد بن صباح الجلاهمة إلى العراق للتدريب على الأعمال الإدارية وفنون الطباعة مع تكليفه باستقدام خبير عربي لتشغيل المطبعة وتدريب العاملين فيها، وقد أمضى «الجلاهمة» مدة سبعة شهور قضاها بين المطابع واطلع عليها وأخذ الخبرة الكافية لتشغيلها وإدارتها، واتفق مع الشاب الفلسطيني «نوح إبراهيم» الذي لديه الخبرة ويعمل بأحد المطابع هناك للعمل في البحرين بمطبعة الزايد، وقد وصل الجلاهمة وبرفقته الخبير نوح إلى البحرين في أوائل العام 1936.
تأهيل البحرينيين
ومع وصول آلات ومعدات الطباعة من ألمانيا وتركيبها، باشر «نوح» عمله بتدريب وتأهيل العاملين والفنيين بالمطبعة، وكانت للزايد مبادرة رائدة عندما وظف الشباب البحريني واحتضنهم في منشأته الجديدة، فتدربوا على جميع أنواع الأعمال في المطبعة ومنها تشغيل وإدارة المعدات وصف الحروف والتجليد وغيرها، ومن هؤلاء من أصبح مدرساً كالخطاط عبدالرحمن الشيخ حسن والشاعر عبداللطيف الجوعان وعلي كمال، أو صحافياً كعبد الرحمن إبراهيم عاشير، بعد أن كتب في جريدتي القافلة والوطن بالخمسينات ثم أسس مجلة «الرياضة» في منتصف السبعينات وكذلك خليل هجرس الذي قامت بتكريمه جمعية الصحفيين البحرينية في 19 أبريل 2013، إضافة إلى آخرين من الشباب البحريني الذين استفادت منهم بعض المطابع في البحرين في الخمسينات ومنهم عبدالله بن صباح البنعلي الذي أصبح فيما بعد مسؤولاً بمطبعة المؤيد.
وبعد أن درب الخبير «نوح» الشباب البحريني وأهلهم في تشغيل المطبعة بأحسن صورة، واطمأن على ذلك رأى أن مهمته قد اكتملت فتقدم للزايد بطلب ترك العمل ومغادرته إلى فلسطين للانضمام إلى مجاهدي الثورة الفلسطينية التي انطلقت العام 1936.
فما كان من الزايد إلا وافق على طلبه ولكن بعد أن استقدم خبيراً آخر من الهند اسمه «لطيف» يتقن صف الحروف اللاتينية فقط ولكنه تعلم صف الحروف العربية على يد الخبير نوح الذي غادر بعدها إلى فلسطين في مطلع العام 1938 لينضم إلى مقاتلي الثورة الفلسطينية، ثم بعدها بستة أشهر يصل خبر استشهاده في 25 أكتوبر 1938، الذي نشر في جريدة «الشباب» القاهرية التي يصدرها الأستاذ محمد علي الطاهر.
وعرف الشهيد نوح إبراهيم رحمه الله بتفانيه في عمله وحبه وإعجابه بالشباب البحريني الذين بادلوه المودة والمحبة ويتذكرون شعره الغنائي في تحية البحرين ومنه قصيدة قال في مطلعها:
بحرين إحنا جيناك
نحب انفرفش بهواك
تكرمـيـــن الضيف
في الشتـاء والصيف
كتاب مرجع
كتاب (الصحافة البحرينية- تاريخ وعطاء) للباحث صقر بن عبدالله المعاودة، واحد من الكتب التوثيقية المهمة التي صدرت في البحرين عن تاريخ الصحافة، وهو جهد كبير قام به الباحث من أجل أن يظهر للنور بصورة جيدة، وهو مرجع لكل باحث في مجال التاريخ البحريني والصحافة البحرينية والحركة الوطنية والاجتماعية والفكرية للبحرين في القرن الماضي.
وأرى ضرورة توفره في كل المكتبات العامة وفي مكتبات الجامعات المحلية والعربية والدولية، وفي والمعاهد والمدارس العامة والخاصة، وفي كل بيت من البيوت، وإذا كانت هناك إمكانية لترجمته إلى اللغات الحية، فإن هذا سيساهم في التعرف على حركة الصحافة وبالتالي الفكر في البحرين إلى جميع العالم.
والباحث صقر المعاودة، من مواليد مدينة المحرق العام 1961، حاصل على دبلوم الدراسات الهندسية الميكانيكية من كلية الدراسات التكنولوجية بدولة الكويت، صدر له كتابان (البحرين في صحافة الماضي 1899-1977) في يوليو العام 2012، وكتاب (دول مجلس التعاون في صحافة الماضي) في ديسمبر 2012.
هو واحد من الباحثين والموثقين الجادين، والذي يدفع بنا إلى المزيد من الاهتمام بتوثيق تراثنا وتاريخنا المحلي، وهو في الوقت نفسه يدعو الآخرين، كل في مجاله، لأن يقدموا ما يملكون من قصاصات وصور وشهادات عن الفترة الماضية.
وفي الوقت الذي نشد أيدينا على يد باحثنا الجاد المعاودة، فإننا نطمح إلى ترجمة ما كتب عن البحرين من وجهات نظر الآخرين، والعمل على دعم هذه الترجمات والمخطوطات المتوفرة في كثير من دول العالم، تركيا، الهند، إيران، بريطانيا، هولندا، البرتغال، فرنسا، روسيا، والعديد من الدول الأخرى.