النجف - (رويترز): في جنوب العراق، ترقد مدينة النجف بعيداً عن قصور بغداد الفخمة، وعن المعارك التي تحتدم في شمال العراق. فبيوتها المبنية بالطوب اللبن وأزقتها الترابية لا توحي بالقوة أو النفوذ. لكن هنا في هذه المدينة حيث يعمل أكثر رجال الدين العراقيين نفوذاً يتحدد مستقبل العراق. وخلال خطب الجمعة الثلاث الأخيرة أدى المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني الذي يحتل مكانة كبيرة في قلوب ملايين الشيعة في العراق وخارجه أنشط دور له في الحياة السياسية بالعراق منذ أكثر من 10 سنوات. ومن مكتبه الذي يقع في أحد الأزقة ويخضع لحراسة مشددة أكد السيستاني هيمنته على الشأن العام بمطالبته الساسة بتشكيل حكومة جديدة دون تأخير الأمر الذي قد يعجل بإنهاء فترة حكم رئيس الوزراء نوري المالكي التي استمرت 8 سنوات. وعادة ما يفضل السيستاني العزلة واللعب من وراء الكواليس لكنه اعتلى المسرح السياسي في 13 يونيو الماضي بدعوة العراقيين لحمل السلاح لمواجهة حملة يشنها مسلحون ينتمون لفصائل تناهض حكم المالكي بينهم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش»، في فتوى هي الأولى من نوعها خلال قرن.
ويقول رجال دين يعرفون طريقة تفكير السيستاني إن ما دعاه لذلك هو خوفه من أن الدولة على شفا الانهيار. واستجاب عشرات الآلاف من الرجال لدعوة السيستاني ليعززوا الجيش الذي بدا في لحظات على وشك التفكك. واعتبر نداء السيستاني لتشكيل حكومة أكثر شمولاً تعنيفاً مبطناً للمالكي حتى من بين أنصار رئيس الوزراء.
ودعا السيستاني الكتل السياسة إلى اختيار رئيس وزراء ورئيس للبلاد ورئيس للبرلمان بحلول الغد الأمر الذي يعني أن المالكي قد يقال خلال أيام. وقال نائب برلماني شيعي «اليوم خريطة الطريق واضحة وهناك جدول زمني. وكأن السيستاني وضع الجميع في موقف صعب».
لكن الفتاوى تنطوي أيضاً على مخاطر على المدى القريب والبعيد. ويقول زعماء السنة إن دعوة السيستاني لحمل السلاح أججت الصراع. وعلى نطاق أوسع تحيي هذه الفتاوى سؤالاً قديماً بشأن الدور الذي يلعبه رجال الدين في النجف في شؤون الدولة وهم الذين ينأون بأنفسهم دائماً عن السياسة. وقال دبلوماسي غربي لديه معرفة قوية بالمؤسسة الدينية «أصدر السيستاني فتوى لم يصدرها الشيعة منذ 90 عاماً أو أكثر، لن يتراجع، يريد أن يلعب دوراً، إذا تراجع بعد إصدار مثل هذه الفتوى فسيعتبر ذلك عدم مسؤولية من جهته».
ولخص النائب الشيعي المقرب من السيستاني الوضع بقوله «السيستاني يقود الآن». والسيستاني هو أكبر مرجعية في النجف من بين مراجع النجف الأربعة وأكثر مرجع يحتذى به في العراق. وبالنسبة للملايين الذين يتبعونه فان فتاويه لا تقبل النقاش.
ولم تترك دعوة السيستاني للساسة باختيار رئيس وزراء بحلول الغد مجالا للشك بأن الأزمة دفعته لاتخاذ أكثر مواقفه وضوحاً منذ الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي عندما ضغط في عام 2004 من أجل إجراء انتخابات مبكرة واستفتاء على الدستور وكللت جهوده بالنجاح.
ويضع التحرك ضغوطاً على المالكي الذي يلقي عليه الكثير من العراقيين والمسؤولين الغربيين اللوم في تهميش الأكراد والسنة والفشل في التصدي للحركة المسلحة.
ودعا السيستاني بعد اندلاع الأزمة إلى تشكيل حكومة لا تقصي أحداً والتي اعتبرتها بعض الشخصيات عبر الطيف السياسي العراقي مؤشرا على وجوب رحيل المالكي. وقال النائب الشيعي «الباب أغلق أمام المالكي».
وأقر مسؤول آخر من الائتلاف الحاكم الذي ينتمي له المالكي بأن تصريحات السيستاني تنطوي على انتقادات لسياسات رئيس الوزراء لكنه قال إن السيستاني لا يسعى للإطاحة بالمالكي. وقال المسؤول «السيستاني لا يريد أن يشارك في اختيار رئيس الوزراء المقبل لكن ينبغي إحراز تقدم». ويقول الباحث بمؤسسة «تشاتام هاوس» البحثية حيدر الكوي إن هناك احتمالاً بألا يكفي توبيخ السيستاني والولايات المتحدة وإيران للإطاحة بالمالكي وهو لاعب متمكن في اللعبة السياسية العراقية.
وقال «بإمكان المالكي أن يلعب أوراقاً أكثر من أي سياسي في العراق، إذا أراد أن يكون عنيداً فأعتقد أنه سيكون عنيداً».
ولعل هذه التقلبات هي من الأسباب التي تجعل رجال الدين يحجمون عن التدخل المباشر في فوضى الحياة السياسية في العراق. وقياساً على الماضي فإن السيستاني ربما يسعى للحفاظ على هذه المسافة على المدى البعيد. في المقابل، يقول منتقدون سنة ان مكمن الخطر في الدور النشط الذي يلعبه السيستاني الآن هو أنه قد يعمق البعد الطائفي للصراع.
وقال رجل الدين السني أحمد الكبيسي لقناة «العربية» إن السيستاني يأمر أتباعه الآن بارتداء الزي المموه ومحاربة السنة.
وأدان رجل الدين السني رفاع الرفاعي الفتوى متسائلاً أين كان السيستاني عندما احتلت الولايات المتحدة العراق؟! وقال إن معاملة السنة اتسمت بعدم الإنصاف وإنهم تعرضوا للهجوم وأريقت دماؤهم واستبيحت نساؤهم. ورأى منتقدو السيستاني أن فتواه منحت شرعية للميليشيات الشيعية التي تعمل خارج نطاق القانون.
وأقر حيدر نزار وهو أستاذ في النجف بأن الفتوى أججت مشاعر طائفية لكنه دفع بأن مزاياها أكبر من عيوبها مشيراً إلى أن الحل البديل هو انهيار الدولة.