يبدو أن كل من الاقتصاد البريطاني والاقتصاد الأمريكى هما الأكثر حظاً فى الخروج من الأزمة المالية قبل غيرهم من الاقتصاديات المتقدمة، حيث إن معدلات النمو في كل من بريطانيا وأمريكا هما الأفضل في الدول الغربية.
كما أن مؤشرات التضخم والانخفاض الملموس في معدلات البطالة في هذين البلدين يؤكدان توجه كل من الاقتصاد البريطاني بشكل خاص والاقتصاد الأمريكي كذلك إلى التعافي والعودة من جديد إلى تحقيق معدلات من النشاط الاقتصادي المرغوب. هذا في الوقت الذي يظل اقتصاد المجموعة الأوروبية في مستوى ضعيف وتستمر دول أوروبا تعاني من الركود وارتفاع مستويات البطالة والدين العام، هذا إضافة إلى استمرار التخوف من الانكماش ممثلاً في انخفاض معدلات التضخم .
وعلى صعيد الاقتصاديات الناشئة فيبدو بأن معدلات لنمو الاقتصادي في تراجع مع استمرار الاختلالات المالية وتراجع حجم التدفقات الاستثمارية وتذبذب وتقلبات كبيرة في أسعار عملاتها وأسواقها المالية.
وإزاء هذه الأوضاع المتباينة نجد أن السياسات الاقتصادية المتبعة في كل من هذه المناطق تتجه إلى التباين كذالك الأمر الذي من شأنه عدم اتساق وانسجام الجهود في تحقيق تعافٍ مشترك على مستوى الاقتصاد العالمـــي ككل.
ففي الوقت الذي وجدنا أن البنك المركزي الأوروبي على ضوء استمرار ضعف اقتصاد المجموعة الأوروبية يعمل على خفض أسعار الفائدة على اليورو إلى أدنى مستوى كما أنه يخطط لمباشرة شراء مكثف لسندات الحكومات الأوروبية تحت ما يعرف بسياسة التيسير الكمي، نجد أن البنوك المركزية في كل من بريطانيا وأمريكا تتجه على النقيض إلى التخلص من سياسة التيسير الكمي والإعداد والتهيئة لرفع أسعار الفائدة على كل من الجنيه الإسترليني والدولار الأمريكي.
وبعكس الوضع السائد في أوروبا والذي يتصف بضعف النشاط الاقتصادي وانكماش الأسعار نجد في المقابل أن التخوف في كل من بريطانيا وأمريكا هو من احتمال تزايد وتيرة معدلات التضخم إضافة إلى الارتفاع المقلق لأسعار الأصول ممثلة في أسعار الأسهم بخاصة في أمريكا وممثلة أيضاً في أسعار العقار كما هو الحال في بريطانيا.
وبالرغم من وضوح هذه المؤشرات، إلا أن كل من البنك المركزي البريطاني والأمريكي يعملان على التوصل إلى سياسات نقدية متوازنة بشكل تحقق التوفيق بين هدف التحكم في التضخم والحد من ارتفاع أسعار الأصول من ناحية لكن دون الإضرار ووأد مسيرة التعافي الاقتصادي من ناحية أخرى .
لذلك وجدنا على سبيل المثال أن البنك البريطاني لجأ موخراً إلى إجراءات رقابية جديدة تحد من الإقراض الخاص بالنشاط العقاري دون أن يضطر متسرعاً إلى رفع سعر الفائدة، كذلك فإن البنك المركزي الأمريكي يعمل حسبما يبدو في اتجاه موازٍ يهدف فيه إلى تقليص تدريجى لحجم مشترياته من السندات تمهيدا للخروج من سياسة التيسير الكمى مؤجلا فى الوقت الحاضر الحاجة إلى ضرورة رفع سعر الفائدة حتى العام القادم لكي يتيح مجال أكبر لمسيرة التعافي حتى تتعزز وتترسخ قبل مباشرة القييد في سياسته النقدية.
أما على صعيد الدول النامية فقد شهدنا تراجع معدلات النمو في دول عديدة أهمها الصين والتي أصبحت تعاني ليس فقط من ضعف معدلات النمو ولكن تعيش أيضاً احتمال انفجار فقاعات النشاط العقاري كما أن نظامها المصرفي قد انخرط في منح الائتمان بشكل متوسع تحت مبررات تحفيز الاقتصاد الأمر الذي قاد إلى استثمارات مضاربية ترتب علىها ارتفاع كبيرفي مستوى الديون المتعثرة هذا إضافة إلى أن نموذج التنمية الذي اتبعته الصين والقائم على الاعتماد على الاستثما ر والتصدير يخضع حالياً إلى مراجعة وإعادة نظر في صالح حسبما يبدو نموذج تنمية جديد يعتمد أساساً على الاستهلاك والسوق المحلي.
بالنسبة إلى بقية الدول الناشئة الأخرى فهي ليست أفضل حضاً حيث إنها تعيش أيضاً مخاوف جديدة على إثر التوجه الأخير للسياسة النقدية في الدول الغربية. لقد أدى استمرار وبقاء أسعار الفوائد في مستويات متدنية غير مسبوقة ولفترة طويلة غير معتادة إلى نزوح حجم هائل من الأموال والاستثمارات للبحث عن عوائد مرتفعة نسبياً في الدول النامية بالرغم من ارتفاع المخاطر التي يتصف بها الاستثمارفي هذه الدول.
وقد أدى هذا التدفق الكبير للاستثمارفي الدول النامية إلى إصدارات كبيرة من السندات الحكومية للدول النامية للاستفادة من هذه التدفقات المالية الكبيرة التي نتجت أساساً عن سياسات التيسير الكمي التي مارستها ولا تزال تمارسها البنوك المركزية في الدول المتقدمة، إلا أن الوضع الآن بصدد التغيير على ضوء الإشارات باحتمال البدء في رفع سعر الفائدة في كل من بريطانيا وأمريكا. إضافة إلى الاستمرار في تخفيض حجم التيسيرالكمي الذي قد ينتهي قريباً خلال الأشهر القليلة القادمة.
لقد شهدنا العام الماضي ردة الفعل العنيفة في أسواق سندات الدول النامية، عندما أعلن البنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي فيييي مايو 2013 عن نيته في البدء بتخفيض التيسير الكمي حيث انخفضت أسعار سندات الدول الناشئة بشكل كبير، هذا إضافة إلى انخفاض أسعار عملات هذه الدول على إثر خروج استثمارات كبيرة من هذه الدول لمجرد الإعلان عن هذا التوجه.
إن التخوف الأكبر الآن هو ليس فقط من إيقاف التيسير الكمي ولكن أيضاً من قرب أجل رفع أسعار الفوائد وبخاصة فى بريطانيا وامريكا.
ومما يزيد من هذا التخوف هو أن رصيد إصدارات السندات الحكومية فى الدول الناشئة قد بلغ مستوى مرتفع يصعب تسهيله وقت الحاجة خاصة في اسواق تفتقد الى السيولة الكافية.
إن هذه التطورات في الأسواق المالية العالمية سواء على صعيد الدول المتقدمة أو الدول الناشئة من شانها خلق تقلبات وتذبذبات للاقتصاد العالمى حيث ان مثل هذه التطورات لا تبدو متناسقة إن لم تكن متضاربة الأمر الذى قد يؤدى الى حالة من عدم الاستقرار، هذا اذا لم يترتب عليه اضطرابات وربما أزمات جديدة حتى قبل أن يتمكن الاقتصاد العالمي من الخروج تماماً من الأزمة الحالية.