الحمدُ لله الذي أنزل الكتاب، تبصرةً وذكرى لأولي الألباب، والصلاة وأتمُّ السلام، على المبعوث رحمةً للأنام، وعلى آله وصحبه الأخيار، ومن اتبعهم بإحسانٍ ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد، فقد أنزل الباري القرآن، وجعله غذاءً للروح والأبدان، تزداد به عُرى الإيمان، ويستيقظ به الغافل النسيان،
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) الأنفال: 2.
وقد أنزل تعالى كلامهُ مفرقاً مرتلاً، ليتحقق به المقصود، من الانقياد للمعبود، بتدبر المعاني، والعمل بما فيها من الأحكام والمباني، (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) الإسراء: 106. وبين تعالى عظمة كلامه وأنه لو أُنزل على جبل صلبٍ صلد لخرّ وتصدع، (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) الحشر: 21. كما بين تعالى أنه جعل في كتابه الرحمة والذكرى، وامتن بذلك على عباده، (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) العنكبوت: 51.
هذا ما وصفه تعالى عن كتابه، وهذا ما ربى عليه المصطفى أصحابه. فعن أبي عبدالرحمن السلمي قال: «حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي (ص) أنهم كانوا يقترئون من رسول الله (ص) عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل.» مسند أحمد بإسناد حسن.
فما بالُ قلوبنا لا تخشع بالقرآن، ولا تنقاد لأوامر الرحمن. هذا القرآن الذي ما إن سمعه نفرٌ من جنِّ نصيبين، إلا حضروه منصتين، مؤمنين به منقادين، ثم ولوا إلى قومهم منذرين،(وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين) الأحقاف: 29.
هذا القرآن الذي ما إن سمعه عمر بن الخطاب، القاصد البطش بالمصطفى وأهل الدار، إلا وارتوى من منبع الإيمان، وصار بين الحق والباطل فرقان. إذ خرج عمر يوماً متوشحاً سيفه يريد رسول الله (ص)، الذي يراه فرَّق أمر قريش، وسفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فيقتله، فلقيه رجل وأخبره بإسلام أخته، فرجع عمر عامداً إلى أخته، فوجد عندها صحيفة، فيها: «طه»، فما إن قرأ منها صدراً إلا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! ثم أسلم عمر الفاروق رضي الله عنه بعدها. سيرة ابن هشام
إن المجتمع الإسلامي اليوم يتجرع داء البعد عن تدبر القرآن، وداء البعد عن العمل بما فيه من الأحكام، وما ذاك إلا لتفريطنا في فهم معانيه، وضعف استشعارنا عظمة كلام من نناجيه، مع الاغترار بحلم الحليم وعطفه، وتجاهل جبروته وبطشه.
والعلاج في نظري يكمن في صدق الالتجاء إلى المنّان، والدعاء بدعاء المضطر الغرقان، بطلب تيسير عقل معاني القرآن، وكونه سبيل الراحة والاطمئنان، كما كان دعاء سيد ولد عدنان: (اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي) مسند أحمد بإسناد جيد. بالإضافة إلى شد العزائم، بامتثال الشرائع، وتعظيم عالم السرائر، مع التنبه لكون المقصود حصول الموعظة والعبرة، لا الانتهاء من الآية والسورة.
وقبل الختام، أود أن يكون لنا من موقف الخوارج عبرة، إذ وصفهم صلى الله عليه وسلم بأنهم يقرؤون القرآنَ لا يجاوزُ حناجرَهم، فيمرُقون من الدِّينِ كما يمرقُ السَهمُ من الرَّميةِ. صحيح مسلم
نسأل المولى اللطف والإنعام، والتجاوز عن الخطأ والنسيان، إنه ذو الفضل والجود المنان.