بقلم - د.راشد عبدالرحمن العسيري:
ها هي أشرف أيام العام، وأبهى ليالي الزمان بدأت بالتصرم والرحيل، وها هي العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك تتراءى في الأفق مئذنة برحيل شهر انتظرناه، فما أسرع مرور الأيام وتعاقب الأزمان، وإنها لآية للمعتبرين، وذكرى للذاكرين، فكم كنا بلهفة واشتياق لاستقباله، والأنس بأيامه ولياليه، عقدنا الآمال فيه لزيادة الطاعات والقربات، ومحو الذنوب والسيئات، فها هو يغادرنا سريعاً، فيا سعادة من فاز بالقرب من ربه بكثرة الطاعات والقربات، ويا خسارة من تعلق بحبل الآمال وترك شريف الأعمال، وانشغل بالملهيات عن خير الليالي والأيام.
أيام عشرة أو أقل هي خاتمة هذا الشهر المبارك، فالضيف العزيز الذي طالما انتظرناه بدأ يلملم أيامه ولياليه مستعداً للرحيل، ولكن فضل الله عظيم، فمازال في ما بقي خير كثير لمن جدد النية وعقد العزم لاستغلال ما بقي من أيامه الغر ولياليه المباركات، فلعل ليالي وأيام العشر الأواخر من رمضان تشحذ الهمم وتسمو بالنفوس.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال وقرب وطاعات، ومن جملة هذه الأعمال الفاضلة في هذه العشر الباقية:
- الاجتهاد بالطاعات والقربات: فقد كان من هدي الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه يجتهد بالطاعات والقربات في هذه العشر ما لا يجتهده في غيرها من الأيام، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره»، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام في هذه العشر أنه يحي ليله ويوقظ أهله لينالوا من رحمات الله وبركاته، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله».
- الاعتكاف في هذه العشر: كان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان»، وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده»، وقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين يوماً.
قال الإمام الزهري رحمه الله: «عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل».
- تحري ليلة القدر: كان من هديه صلى الله عليه وسلم في هذه العشر أنه يتحرى ليلة القدر، وهي أفضل ليالي العام، فهي ليلة ليست كبقية الليالي، العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر، أجرها عظيم، وفضلها جليل، المحروم من حرم أجرها ولم ينل من خيرها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم زمانها، فقال عليه الصلاة والسلام: «ألتمسوها في العشر الأواخر من رمضان»، وقرب للناس وقتها فقال صلى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر»، فهي في الأوتار منها بالذات، أي ليالي: إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين.
فيا سعادة من نال بركتها وحظي بخيرها، وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم على أفضل ما نقول إذا وافقناها، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: قولي: «اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني».
فينبغي أن نعقد العزم في هذه الأيام والليالي المباركات لاستدراك ما فات، ولنستعد لها بأفضل القربات، ولنملأها بأنواع الطاعات، لنفوز بجنة عرضها الأرض والسماوات، وليكن همنا في هذه العشر الأخيرة من هذا الشهر المبارك أن نري الله منا خيراً، فالمحروم من حرم خيرها وبركتها، وفقنا الله لحسن العمل فيها، وجعلنا ممن ينالون ثوابها وكمال أجرها.

al.aseeri..hotmail.com
alaseeri_bh