دعا صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، إلى وحدة الكلمة ورص الصفوف والتلاحم الصادق بين أبناء البحرين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وتوجهاتهم.
ولدى إقامته مأدبة إفطار، بحضور صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس الوزراء، في قصر الروضة لأصحاب السمو كبار أفراد العائلة المالكة الكريمة ورئيسي مجلسي النواب والشورى والعلماء والوزراء والمدعوين، حث جلالته على نشر ثقافة التسامح والتعايش وحفظ الأصول الدينية والثوابت الوطنية.
وهنأ جلالته، جميع المواطنين والأمتين العربية والإسلامية بدخول العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، سائلاً المولى العزيز الحكيم، أن يوفق الجميع لصالح القول وخالص العمل. ونصت الكلمة السامية لجلالة الملك «ونحن نسعد بالأيام والليالي المباركة من الشهر الفضيل، نهنئكم جميعاً والمواطنين الكرام، وأمتنا العربية والإسلامية، بدخول العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، سائلين المولى العزيز الحكيم، أن يوفقنا لصالح القول وخالص العمل، وأن يتم علينا نعمة صيامه وقيامه، وأن يعيده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة، بالأمن والسلام والصحة والعافية.
ويسرني أن أتقدم بالشكر والتقدير لسماحة الشيخ ناصر بن الشيخ أحمد خلف العصفور على محاضرته القيمة، وتحدث فيها عن (البحرين بلد التعايش والتسامح الديني)، فجزاه الله تعالى خيراً على ما يبذله مع إخوانه العلماء والدعاة والمصلحين من نصح وإرشاد، نظير ما قدموا لدينهم ووطنهم وما سخروا له أنفسهم ووقتهم خدمة للمجتمع، فلهم منا جزيل الشكر والتقدير والامتنان.
ونحن نعيش نفحات وبركات الشهر الكريم، ينبغي علينا جميعاً أن نحرص في الوطن العزيز على وحدة الكلمة، ورص الصفوف، والتكاتف والتآخي والمحبة، ونشر ثقافة التسامح والتعايش، وحفظ الأصول الدينية والثوابت الوطنية، والتلاحم الصادق بين أبناء شعبنا الوفي على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وتوجهاتهم.
ولا شك فإن هذه الدعوة تعمق روح الأسرة الواحدة، وتعزز مسيرتنا الإصلاحية، ومكتسباتنا الوطنية التي حققناها وأنجزناها معاً.
ونسأل الله تعالى، أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال في هذا الشهر الكريم، وأن يوفقنا وإياكم لخدمة ديننا وأمتنا، وأن يؤلف بين قلوبنا ويحفظ مملكتنا البحرين، ويديم علينا نعمة الأمن والأمان والسلام».
وكان جلالة الملك المفدى صافح الحضور وتبادل معهم التهاني بمناسبة العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، سائلين المولى عز وجل أن يوفق الجميع لما فيه الخير والصلاح للبحرين وشعبها، ويديم عليها نعمة الأمن والأمان، مبتهلين إلى الله سبحانه وتعالى أن يعيد الشهر الفضيل على الأمتين العربية والإسلامية بالعزة والأمن والسلام والرخاء.
من جانبهم، أعرب الحضور عن بالغ شكرهم وتقديرهم لجلالة الملك المفدى على جهوده الكبيرة في خدمة الإسلام والمسلمين، مشيدين بحرصه واهتمامه بالأعمال الخيرية والإنسانية وإعمار المساجد وإنشاء مراكز تحفيظ القرآن الكريم في جميع أنحاء المملكة، ورعايته للعلم والعلماء.
وتوجهوا بالدعاء إلى المولى عز وجل أن يعيد هذه الأيام المباركة على جلالته بوافر الصحة والسعادة، وأن يحفظ البحرين وشعبها ويديم عليها نعمة الأمن والأمان والاستقرار والازدهار.
وبعد تلاوة آي من الذكر الحكيم تحدث الشيخ ناصر بن الشيخ أحمد خلف العصفور بحديث ديني «البحرين بلد التعايش والتسامح الديني»، استهلها بحمد الله وشكره والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال العصفور «الحمدلله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وخلق الأشياء ناطقة بحمده وشكره، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وسيد رسله، محمد المصطفى المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.
في أجواء هذا الشهر المبارك شهر الله الكريم، الذي جعله الله ميداناً للتسابق إلى الخيرات واكتساب المثوبات، وفي العشر الأواخر من شهر المغفرة والرحمة، والذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار).
ينعم المسلمون في هذا الشهر برحمات وبركات وفيوضات إلهية، ويعملون على الاستفادة من أبعاده المختلفة، روحية ونفسية واجتماعية، فهو محطة ربانية ومدرسة تربوية إيمانية.
في هذا المحفل الكريم، أستميحكم في التحدث حول بعض الجوانب المرتبطة بالتعايش والتسامح انطلاقاً من قول الله تبارك وتعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
اقتضت حكمة الله عز وجل في خلقه، أن جعلهم شعــوباً وقبائل وأمماً متنوعين في انتماءاتهم، مختلفين في ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم، وتبعاً لهذا الاختلاف فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك اختلافاً في الطبائع والثقافات والعادات والتقاليد والأعراف، وهذا بذاته يشكل دافعاً ومحركاً نحو التعارف والتواصل، فثمرة التعارف هو التعايش والتعاون وتبادل الخبرات والتجارب.
الحضارة الإنسانية إنما هي مجموع تراكم خبرات وتجارب ومعارف مختلفة ومتنوعة، وعلى هذا الأساس فإن الانغلاق والانطواء على الذات يمثل خلاف السنة الإلهية والطبيعة الإنسانية، والتي من أبرز نتائجها وسلبياتها هو تكَوّن تلك الصورة المشوشة أو الناقصة، وغير الواضحة عن الآخر سواءً على الصعيد الفردي أو على مستوى المكونات المختلفة.
ومن المفارقات أنه في الوقت الذي يدعونا القرآن الكريم ويحثنا على التعارف والتواصل والانفتاح على الثقافات والشعوب والأمم والحضارات الأخرى، نجد أنفسنا كمسلمين وكأمة قد وضعنا الكثير من العوائق، وصنعنا حول بعضنا الحواجز والمتاريس، ونحن أمةَ واحدة قال عنها سبحانه وتعالى (وإن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدون).
وإذا كانت المذاهب الإسلامية في الأمة تشكل تنوعاً ورافداً وإثراء للحالة الإسلامية في إطارها العام، وهي حالة إيجابية إلا أنه وبسبب الجهل والتعصب، قد تتحول إلى مادة تنازع وتصارع وتطاحن، بدل أن تكون سبباً للتقارب والالتقاء والتعاون، وأن هذا التمايز والتنوع يفترض أن يشكل قيمة إيجابية تنافسية للارتقاء والنهوض والتقدم وليس العكس.
ومعلوم أن الفتن الطائفية لا يقتصر خطرها على الفرقة والتنازع، وما ينتج عن ذلك من وهن وضعف وتخلف، بل نجد الآن خطر الفتن الطائفية والصراعات العرقية تقود إلى محارق حقيقية وتلقي بظلالها على تقسيم البلدان وتدمير الأوطان.
إننا ننتمي لهذا الدين العظيم، وهو دين الرحمة والإنسانية والسلام والأمان، دين لا يوجد فيه مكان للحقد ولا للكراهية ولا للعنصرية ولا العصبية، يتعامل مع الآخرين على أساس من الكرامة الإنسانية، وأن اختلاف الدين واختلاف العقيدة لا يعني عدم احترام الآخر، ورعايةَ حقه الإنساني، بل أكثر من ذلك فالإسلامُ يدعونا إلى الإحسان والبر بالآخرين من غير المسلمين، يقولُ الله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين).
ويعلمنا الإسلام أن نظهر إيجابيات الآخرين ومن نختلف معهم أيضاً، كما قال الله تعالى جل شأنه (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى).
ويريد لنا أن نكون منصفين ليس فقط مع من نختلف معهم، بل حتى مع الأعداء، إنها قيمة راقية تقدم للعالم الصورة الحضارية الحقيقية عن الإسلام وقيم الدين، ولكن من المؤسف أن هذه الصورة مغيبة ومختطفـة، وما يــراه العالم اليوم وما يحمل من تصور عن الإسلام والمسلمين هي صورة مشوشة ومشوهة من خلال ما يرونه من تشدد وانغلاق، وما يشاهدونه من ممارسات منحرفة على الأرض نتيجةَ ظهور الفكر التكفيري الإقصائي الذي أضر بالإسلام أيما إضرار.
إن أي أُمة إنما تقدر وتقيم بإنجازها وبتاريخها وما تزخر به من عطاء وتراث وفكر، وتفخر بحاضرها وبما تنجزه في واقعها، فالتاريخ الكبير والرصيد الضخم هو المحرك للأجيال والدافع لهم لتحقيق الإنجازات والإبداعات.
الأمة الحية والناهضة تعتز بتاريخها وتفخر بماضيها، ولا تغفل حاضرها ومستقبلها، بل توظف هذا التاريخ والتراث لصناعة مسيرتها وتسخره في بناء مجدها، وبلدنا البحرين لها تاريخها الكبير، وإنجازها التليد، وتراثها الغني، الحافل بالعلوم والمعارف في مختلف الحقول العلمية التي أبدع فيها علماؤها الكبار ومفكروها الأفذاذ على مر تاريخها العريض، الذين كانت تزخر بهم هذه البلاد وأسهموا في بناء مجدها وتاريخها وعزها.
إنه من دواعي الفخر والاعتزاز أن البحرين الغالية كانت ومازالت نموذجاً راقياً للتسامح والتعايش وعلى مر تاريخها الطويل، في ظل الانسجام والترابط والتراحم بين مكونات هذا المجتمع الواحد، الذي تداخلت وشائجه وتعززت أواصره وتوطدت علاقاته على مر السنين، وهذا هو مصدر قوتها وغناها، بحيث أصبح الإنسان البحريني مضرب المثل في تعايشه وتسامحه كما هو في طيبته ونقاء سريرته ودماثة أخلاقه، فهو نموذج لثقافة التسامح والمحبة الإنسانية الراقية، وهذه نعمة إلهية كبيرة نشكر الله ونحمده عليها.
وأهل البحرين عموماً بكل مكوناتهم وبالخصوص الطائفتين الكريمتين في تعايشهم وتسامحهم وحرصهم على وحدتهم الإسلامية والوطنية، ورغم ما حصل ويحصل في المنطقة، والدول من حولنا من انزلاق في وحل الطائفية، إلا أن هذا البلد وأهله يمتلكون من الوعي والحكمة والبصيرة ما يشكل ضمانة وحصانة منيعة صلبة من أي انجرارٍ في هذا المنزلق الخطر والمنحدر الوعر.
نسأل الله تعالى جل شأنه في هذا الشهر الفضيل، أن يحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين وبالخصوص شعب فلسطين وأهل غزة المحاصرين، وأن ينعم علينا جميعاً بالأمن والأمان».