كتب - أمين صالح:
ميكايل هانيكه Michael Haneke واحد من أهم مخرجي السينما الأوروبية، والأعلى مكانةً وتقديراً.
عبر أفلامه الهامة، سلط هانيكه ضوءاً ساطعاً على أجواء النزوع إلى الشك والارتياب (البارانويا)، النابع من الشعور الحاد بالذنب، والذي يتصل بسلوكيات ومواقف العائلة المنتسبة إلى الطبقة المتوسطة. كما أظهر براعة في تحري القضايا الاجتماعية من خلال كاميرا حساسة وواعية، وعين قادرة على سبر مختلف المشاعر والانفعالات.
فيلمه «الشريط الأبيض» The White Ribbon 2009، يمثل عودة هذا المخرج المبدع، بعد أكثر من عقد، إلى تصوير الفيلم في ألمانيا وباللغة الألمانية. هنا يركز بؤرته، على نحو مكثف، على الطفولة، العائلة، العلاقات الطبقية في مجتمع قمعي وكابح. كاشفاً عن الطبيعة السامة، الهدامة، للتشدّد الديني. مقدماً تأملاً قاتماً فيه يستكشف تأثيرات العنف البدني والنفسي. ومحققاً وثيقة رائعة عن الكبح الديني والإفلاس الأخلاقي والظلم الاجتماعي وتفشي الشر الذي ينخر أساس مجتمع يتجه حثيثاً نحو تدمير نفسه والآخر عبر حروب طاحنة تلوح في الأفق.
العالم الذي يصوره هانيكه في هذا الفيلم مليء بالحقد، الضغينة، المكر، الحسد، اللامبالاة، والوحشية. لكنه أيضاً يترك مساحة لمشاهد حافلة بالعاطفة والنعومة والمشاعر الرومانسية، في العلاقات الغرامية وفي العلاقات العائلية.
«الشريط الأبيض» هو فيلمه العاشر خلال 20 سنة من عمله السينمائي، وهو مبني على رواية ألمانية غير مشهورة كتبها ثيودور فونتين في نهاية القرن 19، ويستغرق مدة عرضه 144 دقيقة. العمل كان في الأصل معداً كمسلسل تلفزيوني قصير، يتألف من ثلاثة أجزاء، لكنه لم يجد ممولين للعمل فقرّر أن يحوّله إلى سيناريو سينمائي.. «متخلصاً من الكثير من الشروحات والمبررات التي يحتاجها التلفزيون بينما هي تعتبر زوائد لا لزوم لها في السينما. كما استبعدت عدداً من الشخصيات الثانوية».
وفي سبيل إنهاء النسخة الختامية من السيناريو استعان بكاتب السيناريو الفرنسي الشهير جان كلود كارييه (الذي عمل مع بونويل في العديد من أفلامه) لكي يساعده في اختزال السيناريو في نسخته النهائية.. «كانت لديه بعض الأفكار الجميلة والذكية بشأن ما يمكن اختزاله وحذفه».
تدور أحداث الفيلم في قرية ألمانية صغيرة ومعزولة تقع في الشمال، في العام 1913، السنة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى.
ها هنا من جديد، يعين هانيكه الدراما في مرحلة تاريخية ليتحرى قضايا تتصل بمرحلة أخرى. إذا كان في فيلمه «المخفي» Hidden 2005 قد تناول الحاضر ليتأمل علاقته بالماضي. فإنه هنا، في «الشريط الأبيض»، يتناول الماضي ليتأمل مستقبل تلك المرحلة.
عن اختياره لتلك الفترة التاريخية، يقول هانيكه: «القصة تدور في تلك المرحلة الخاصة حتى تكتسب دلالة سياسية إضافية. يمكن بسهولة أن أجعل الأحداث تدور في قرية إسلامية. بالطبع، في هذه الحالة سيكون للفيلم مظهراً مختلفاً، لكن العناصر الأساسية ستكون هي نفسها. أظن أن المشاكل والمعضلات التي كانت موجودة في ذلك الوقت لا تزال موجودة في حاضرنا: هل نحن محكومون بتقبّل واعتناق أيديولوجيات معيّنة؟ أنا ببساطة أحاول أن أعيد خلق مرحلة معينة. لست مدرّس تاريخ».
القصة تشمل نطاق سكان القرية بأسرهم: البارون مالك الأراضي، وكيل المزرعة المشرف على أملاك البارون، الطبيب، القس، القابلة، أسرة من المزارعين، المدرّس الذي يسرد الأحداث بعد سنوات طويلة من وقوعها، فنسمع صوته الذي يوحي بأنه عجوز في الثمانين من عمره (وهي المرة الأولى التي فيها يلجأ هانيكه إلى الراوي) يقول في لقطات الافتتاحية:
«لا أعرف ما إذا كانت القصة التي سأرويها لكم حقيقية تماماً. أعرف بعضها عن طريق الإشاعة. بعد سنوات طويلة، الكثير منها لايزال غامضاً، والعديد من الأسئلة تظل بلا أجوبة. لكنني أعتقد أن عليّ أن أخبركم بالأحداث التي وقعت في قريتنا، فلربما تلقي ضوءاً جديداً على بعض الأمور التي حدثت في هذه البلاد».
منذ البداية يضرم فينا الراوي حس الالتباس والبلبلة، والإرتياب في حقيقة ما سنراه على الشاشة من أحداث. قد يكون هذا المدرّس (الراوي) دليلنا الذي يأخذنا عبر الحكاية المتشابكة، لكننا سنكتشف أن الأحداث، في العديد من المواقف، مرئية من منظور الأطفال. البؤرة غالباً ما تكون مركزة على الأطفال، الذين يعكسون سلوك الكبار. على أية حال، هانيكه يرفض أن يقدم أي شرح أو تأويل. يقول إن مهمته تنحصر في طرح الأسئلة فحسب.. «ليس من مهمتي تأويل أفلامي. على كل شخص أن يجد تأويله الخاص. إني أتعامل مع جمهوري بجدية، لذلك أمنحهم الفرصة لأن يقرروا بأنفسهم ما يرغبون في تفسيره. أنا أخلق التوتر، وأطرح أسئلة معينة. ذلك هو هدفي. ما هو مجدٍ أكثر، بالنسبة لي، هو أن تجعل المتفرج يجابه الواقع المركب الذي يعكس الطبيعة المتناقضة للتجربة الإنسانية».
وعن سبب اختيار المدرّس، وهو شخصية ليست رئيسية ولا حضور طاغياً لها، ليكون راوياً للأحداث، يقول هانيكه: «من جهة، هو الشخص القادم من الخارج والذي لا ينتمي إلى القرية. إنه يشكّل الثقل المقابل أو الموازن في البناء كله، والذي يقف على بعد مسافة مع شكوكه وارتيابه. المدرسون غالباً ما يؤدون هذا الدور. تأمل كيف مارس فيتغنشتاين عمله كمدرّس.. كان في نزاع مباشر مع المجتمع الصغير الذي عمل ضمنه. من مرحلة طفولتي أستطيع أن أتذكر مدرّساً أو اثنين كانا مثاليين حقاً. من جهة أخرى، هو يتحوّل أحياناً إلى شخص انتهازي. على سبيل المثال، حين يتبنى موقف القس السلطوي، الاستبدادي، تجاه التلاميذ».