قال علماء ودعاة أن «الشرع اهتم بمسألة الوفاء بالعهود، ولم يتسامح مع من يفرط فيها، لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم، بل جعل من الفضائل، فضيلة الوفاء بالعهد، واحترام الوعود، واعتبرها المسلمون من دلائل كمال المروءة، فقد أمر سبحانه عباده المؤمنين بالإيفاء بالعقود، فقال سبحانه «أوفوا بالعقود»، وجعل الالتزام بالعهود والوعود من المسؤوليات التي يحاسب عليها المؤمن، فقال عز وجل «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً».
وأضاف العلماء أن «نقض العهد نقيصة مخجلة، لأن الإنسان يحيد بها عن حق الله تعالى، وحق عباده، ذلك أن من ينقض ما عاهد الله عليه، من السهل أن ينقض عهود الناس، وألا يلتزم بوفاء الوعود، ما يجعل العلاقات الإنسانية عرضة للمخاطر التي تجلب الأضرار المادية والمعنوية، وتلحق الأذى والدمار بالصلات والروابط على اختلافها».
والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء، والنهي عن النقض، بل تستطرد لضرب الأمثال، وتقبيح نكث العهد، إذ القصد بالأمثال صرف المكلف عن مضمونها إذا كان قبيحاً، والدعاء إليه إذا كان حسناً.
ولهذا، بعد أن أمر الله بالعدل والإحسان، ونهى عن المنكر والعدوان، أعقب ذلك بقوله سبحانه «وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان»، توجيهاً للناس نحو الحق والخير، وأمراً لهم بالوفاء بالعهد، ونهياً عن نقض الأيمان.
ثم ضرب الله سبحانه مثلاً توضيحياً للذين ينقضون بالعهود، ولا يوفون بالوعود، فقال عز من قائل، «ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا»، فجاء هذا المثل من واقع الناس، يرونه في حياتهم، حيث يأمرهم ربهم بألا يكونوا مثل تلك المرأة الحمقاء الخرقاء، التي تغزل صوفها بإحكام، ثم تعود وتحل ما غزلته، فيذهب تعبها وعملها سدى، وبحسب التعبير القرآني: «أنكاثاً»، أي: قطعاً متفرقة، أو خيوطاً مبعثرة، لا تصلح في حياكة ثوب، أو صنع شيء ينتفع به.
وقد تحدث أحد العلماء عن هذا المثل، فقال «مثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء، ملتاثة ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها، ثم تنقضه، وتتركه مرة أخرى قطعاً منكوثة ومحلولة! وكل جزئية من جزيئات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجب، وتشوه الأمر في النفوس، وتقبحه في القلوب، وهو المقصود، وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة، الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه!».
والمراد من ضرب هذا المثل التحذير والتخويف من سوء عاقبة نقض العهود والمواثيق، والحث على الوفاء بها، وبيان أن فعل ذلك كمثل المرأة التي غزلت غزلاً وأحكمته، فلما استحكم، نقضته فجعلته أنكاثاً. قال العالم والمحدث الآلوسي «في الآية تشبيه حال الناقض بحال الناقض في أخس أحواله، تحذيراً منه، وأن ذلك ليس من فعل العقلاء، وصاحبه داخل في عداد حمقى النساء».
من جهته، قال الإمام محمد متولي الشعراوي رحمه الله عن المراد من هذا المثل «فكأن القرآن شبه الذي يعطي العهد ويوثقه بالأيمان المؤكدة، ويجعل الله وكيلاً وشاهداً على ما يقول بالتي غزلت هذا الغزل، وتحملت مشقته، ثم راحت فنقضت ما أنجزته، ونكثت ما غزلته، والحق تبارك وتعالى بهذا المثل المشاهد يحذرنا من إخلاف العهد، ونقضه، لأنه سبحانه يريد أن يصون مصالح الخلق، لأنها قائمة على التعاقد والتعاهد والأيمان التي تبرم بينهم، فمن خان العهد، أو نقض الأيمان لا يوثق فيه، ولا يطمئن إلى حركته في الحياة، ويسقطه المجتمع من نظره، ويعزله عن حركة التعامل التي تقوم على الثقة المتبادلة بين الناس». ويستدل من هذا المثل على وجوب احترام معاهدات الصلح والاتفاق بين الأمم، وعدم نقضها من طرف واحد، لأن الأصل في ذلك توافق إرادة الطرفين المتعاهدين على إلغاء المعاهدة أو وقفها، وأن يقصد بها الإصلاح والعدل والمساواة، فتبنى على الإخلاص دون الغش والخداع والمكر، ذلك أن الإسلام يريد الوفاء بالعهد والمعاهدات، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والخداع. وعلى هذا الأساس السليم والمتين من الوفاء بالعهود والوعود قام بناء الدولة الإسلامية، فنعم العالم بالطمأنينة والثقة في المعاملات الفردية والدولية.
من جهته، أوضح الشيخ صالح المغامسي، أن «الرسول صلى الله عليه وسلم كان أعظم من حفظ العهود والمواثيق، ورغم أن أهل قريش آذوا الرسول كثيراً، إلا أنه خلال هجرته حرص على أن يصل لكل منهم أمانته، التي كانوا يحتفظون بها عنده، وأن يردها إليهم، كاملة دون نقصان، عن طريق الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكل هذا يندرج في أن العهد يسأل عنه الإنسان يوم القيامة، وحفظه من دلائل كمال المروءات، وهو من القيم العظيمة التي أتى بها الإسلام، وخصلة من خصال الأحرار التي مازال العرب يتباهون بها، ويأنفون أن يتركوها طرفة عيــن».