كتب - جعفر الديري:
تأتي الذكرى السادسة لوفاة شاعر فلسطين محمود درويش، مع استمرار الاعتداء الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، لتثير كماً من الألم والمأساة الإنسانية لا يطاق!، وتساؤلات شتى عن دور الشعر والأدب في إذكاء روح المقاومة الفلسطينية ضد العدو الإسرائيلي.
عاش درويش القضية الفلسطينية، وكان في سباق مع الزمن، مشعلاً قصائد من نار ودخان، وأبيات شعرية تقاوم الظلم والجور وتردّي النوع الإنساني لما يأباه الجماد فضلاً عن الحيوان والنبات!.
نظم قصائد هي اليوم جزء من حياة الفلسطينيين، يصدحون بها في مجالسهم وأمسياتهم، وتدار حولها الأطروحات العلمية، وتخرج بسببها شتائم الإسرائيليين، شديدة الكره والحقد للرجل الذي ذهب خالداً في مثل هذا اليوم 9 أغسطس العام 2008.
ويجد الشاعر محمد بوحسن في الاحتفاء بدرويش في أي من المناسبات من خلال الوسائل الإعلامية مرئية وصوتية وورقية، احتفاء بقامة أدبية لها تاريخها النضالي والأدبي على الصعيدين العربي والغربي، فمحمود درويش -هذا الأديب الذي ارتقى منبراً أدبياً شعرياً نضالياً- رحل وخلف مكاناً ريادياً يرد إليه كثير من المفكرين، وأعطى ومن خلاله النضالي فكراً راقياً في صناعة الأدب العربي المتمثل في نهجه الشعري الحديث، «فلا غرابة أن يحتفى بمثل هذه القامة الأدبية فهو لم يمت».
ويلفت بوحسن إلى أنه رغم الاعتداءات الصهيونية المتكررة ورغم الإصرار على طمس الهوية الفلسطينية المتمثلة في روح المقاومة، لاتزال القصيدة النضالية باقية بمثابة المدفعية في قصيدة محمود وغيره من أدباء المقاومة جزالاً وشعراً، إذ جسدت قصيدة درويش واقعها لتبرز نضالها ومدى مفهومها على الساحة الأدبية، والمقاوم العربي الغيور على أمته الذي بات يتلاعب به سماسرة الذبح والقتل في هذا العصر.
ويؤكد بوحسن أن درويش سيظل الشاعر الملهم الذي افتقدته جماهيره ومحبوه مرفرفاً ومغرداً في سماء الحرية، في سماء المقاومة ليغني لفلسطين أغنية السلام، أغنية الأمل، أغنية النصر القريب المؤمل بالله سبحانه لفلسطين.
كل رحيل هو موت
بدورها ترى الشاعرة إيمان الشاخوري أن الموت لا يعني الرحيل بالضرورة، لكن كل رحيل هو موت، «نعم لقد مات درويش فعلاً، لكنــــــه لم يــــــرحل. مـــــازال درويش في أصوات الأحرار نبرة لن تتبدّل بغيرها أبداً، لذا اعتبر حيــــــــاة الفلسطينيين دليلاً على درويش».
وتضيف الشاخوري أن الاحتفال بوفاة درويش، كما لو أن أماً يصادف عيد ميلاد ابنها في يوم العاشر من المحرم، فتخبز كعكةً بيديها، ثم تجمع أحبابها في منزلها، وتحيي «زفاف القاسم» حتى إذا ما أكملت المجلس وزعت الكعكة والشموع في يوم عيد ميلاد ابنها، وعلى بركة القاسم في الوقت نفسه.
وتتابع الشاخوري: وظف درويش إنسانيته في قصائده، وكثير من الشعراء فعلوا لكن كان توظيف درويش في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب أيضاً، وبأسلوب مختلف، جميل، وليس منغلقاً بفئة عمرية محددة.
جزء من الحضارة
من جانبها تؤكد الروائية زينب البحراني أن درويش جزء لا يتجزأ من ذاكرة الحضارة العربية الفلسطينية، والاحتفاء بحياته أو ذكرى وفاته هو استحقاق إنساني وتاريخي بغض النظر عن الظروف التي تمر بها البلاد، فالشعراء، الأدباء الحقيقيون، والمبدعون العظماء في أي مجال لا يموتون، بل تتكرر حياتهم مرّات ومرّاتٍ بمنجزاتهم الراكضة على درب الخلود.
وترى البحراني أنه ورغم أن لشعر درويش مذاقاً خاصاً ونكهة استثنائية، إلا أنه يجدر بنا الاعتراف أن المحطات الشخصية والسياسية التي صادفها أو خطط لها خلال حياته كان لها دور كبير في انتشار اسمه، فسيرة حياة درويش تؤكد أنه لم يكن شديد التواضع أو ملائكي الصفات، بل كان يحب نفسه كثيراً، ويعمل باجتهاد يستحق الاحترام على انتشار اسمه وصناعة شهرته، بعكس شعراء آخرين أكثر تواضعاً، وانزواء، وتفضيلاً للبقاء في الظل.
وتضيف البحراني أن الأزمة الاستثنائية التي تمر بها الأراضي الفلسطينية لأكثر من نصف قرن ترشح حضارتها وموروثها الإنساني للاندثار بسرعة مفجعة، ورغم كونها أرضاً ثرية بالشعراء والمبدعين إلا أن درويش بذكائه الاتصالي وعلاقاته العامة استطاع تجاوز حدوده القطرية بما هو أبعد من أناقة الكلمات وشاعرية الإحساس، وهذا ما جعله ينبض في ذاكرة الشعر العربي ويضاعف حياته فيها، ومن ثم يسلط الضوء على الوجود الفلسطيني دائماً.