كتب - إسماعيل الحجي وأحمد الجناحي:
لا يمكن أن تزور المحرق إلا وتطالعك صفحة من تاريخ تليد، لابد أن تشم رائحة من مروا منقوشة على حجارة الأرصفة ومنعطفات الطرق والبوابات المقنطرة، ومما لاشك فيه أنك تتلمس اللؤلؤ وتطالع بريقه.
المحرق أو كما يصفها أهلها «عرين الأسود» تشبه دهن عود وضع عند شرفة بيت عتيق، بين حواريها الضيقة تجد تراث الأجداد، حجارة الأرصفة السوداء، الأبواب الخشبية المعرقة بالحديد والنحاس، الشبابيك العالية المقوسة، الجدران الحجرية السميكة، والشوارع الضيقة العابقة بالدفء والحميمية.
حين تمضي بين حواري المدينة ودواعيسها الملتفة، تنفتح أمامك أبوابها على فضاءات مشرعة للقمر والنجوم، وتحاكي في تصاميمها بيوتات المنامة القديمة، وتقترب من البيت الدمشقي باستثناء خلوها من أزهار الياسمين وبحرة تتوسط ساحاتها.
حتى عدادات المياه حفظت داخل صناديق خشبية تحاكي جانباً من التراث، وتنقلك بطرفة عين إلى خمسينات القرن الماضي عندما كان «السقاي» يدور بين الحواري ويجوب الدواعيس ليزود البيوت بالمياه وينادي بأعلى صوته «ماي بلير» أي ماء عذب، وتطالع عند مدخل أحد البيوتات درجات خشبية حافظت على شكلها رغم كر السنين.
الرحالة عبدالمسيح الأنطاكي الذي زار البحرين عام 1907، يقول إن المسافة بين المنامة والمحرق تحتاج بقارب يسير بقوة دفع الهواء إلى 50 دقيقة، وأن حكام البحرين كانوا يختارون المنامة للسكنى صيفاً والمحرق شتاءً «لم أجد في المدينة برداً خلافاً للمنامة فهي كثيرة الطراوة حتى أني وجدت ترابها مبلولاً».
اليوم اختلف الحال، وفي الطريق من المنامة إلى المحرق تحتاج أن تعبر أحد ثلاثة جسور، جسر الشيخ حمد آل خليفة وجسر الشيخ عيسى آل خليفة وجسر الشيخ خليفة.
سوق القيصرية
سوق القيصرية أحد أقدم أجزاء سوق المحرق وأكثرها سحراً وجمالاً، يتوسطه شارع واسع تقوم على جانبيه محال بيع العباءات والأثواب البحرينية التقليدية ومحال صناعة الحلوى والتحف والشرقيات، ويتفرع عنه يميناً وشمالاً شوارع ضيقة ملتفة تشبه الشارع الرئيس لجهة بضائعه المعروضة باستثناء أنها أكثر ضيقاً ومسقوفة في أجزاء منها، وتشبه في تفصيلها الأخير أسواق الحميدية ومدحت باشا في دمشق القديمة.
ويخضع السوق حالياً لمشروع ترميم شامل أطلقته وزارة الثقافة للحفاظ على طابعه التقليدي، حيث أنجزت المرحلة الأولى من المشروع، ويضم مجموعة متاجر جرى ترميمها وإعادة تأهيلها وهي تبيع مجموعة متنوعة من المنتجات التقليدية، وكذلك مقهى ومطعم «الزعفران» الذي يقدم أشهر الأطباق البحرينية، وهنا وهناك تطالعك مدارس تاريخية هي الأشهر والأعرق في البحرين كلها.
ويعد سوق القيصرية عنصراً مهماً ضمن مشروع «طريق اللؤلؤ» الممتد على مسافة ثلاثة كيلومترات، ويحكي قصة صيد اللؤلؤ في البحرين، بدءاً من الغوص والبحث عنه في أعماق الخليج، وانتهاءً بصقله وترويجه في أسواق العالم.
وتسعى الوزارة -ضمن خططها لحفظ التراث من الضياع- إلى تسجيل مشروع طريق اللؤلؤ على قائمة التراث العالمي بمنظمة «اليونسكو»، تخليداً لحكاية اللؤلؤ والمشتغلين فيه.
المحرق مقصد ثقافي
كما كانت المحرق مشتى لحكام البحرين، هي اليوم عاصمة لثقافتها، فمعظم البيوتات الأثرية التي تحولت إلى مقاصد ثقافية تجدها هناك، عمارة بن مطر، وعمارة بو زبون بيت إبراهيم العريض وعبدالله الزايد وقاعة محمد بن فارس لفن الصوت الخليجي وبيت القهوة وبيت جمشير كلها في المحرق.
ولعل أشهر هذه المقاصد وأغناها وأكثرها نشاطاً مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث وسط المدينة، وتحتاج للوصول إليه للسير على القدمين بشوارع ضيقة ملتفة، تمر خلالها ببيت القهوة ومقهى الزعفران وبيت عبدالله الزايد.
ويستضيف المركز سنوياً كوكبة من ألمع الباحثين والمفكرين ونجوم التلفزيون والسينما والإعلام لعرض تجربتهم، والحديث في مختلف موضوعات السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة والتراث، كما يحتضن المركز معارض فنية تشكيلية وأخرى للتصوير الفوتوغرافي وورش عمل وندوات وفعاليات ومناشط ثقافية متنوعة.
ويعد بيت الشيخ عيسى بن علي أروع مثال على العمارة الإسلامية في الخليج، إذ يضم أربعة أفنية وأبواب خشبية منحوتة وألواح جصية مثقوبة.
وتقدم المنازل التراثية في المحرق مثالاً شاهداً على اهتمام البحرين بتاريخها وتراثها، وتعد العمارة هنا من بين أهم تفاصيلها، إلى جانب مفردات المأكل والملبس وأدوات المطبخ والأغاني والرقصات الفلكلورية والدبكات والألعاب الشعبية.
في المحرق تطالع التصاميم الهندسية والزخرفة الفنية المتقنة في بيت الكورار مثلاً، وتاريخ اللؤلؤ في عمارة بن مطر وهو المنزل السابق لتاجر لؤلؤ شهير في البحرين.
قاعة المحاضرات في مركز الشيخ إبراهيم ومكتبة اقرأ للأطفال وحرف الديار وبيت النوخذة «أول منزل جرى ترميمه في مسار طريق اللؤلؤ»، وبيت الكورار وبيت عبدالله الزايد وبيت القهوة وبيت بن مطر وعمارة بو زبون وبيت محمد بن فارس، جميعها تعرض لجوانب مختلفة من تاريخ البحرين الثري والغني بالمفردات.
بيت القهوة
وسط أحياء المحرق القديمة والبيوت التراثية التابعة لمركز الشيخ إبراهيم، يكتمل مشهد المكان ببيت القهوة، الذي يشكل استراحة لزوار هذه الأحياء.
زائر المحرق بإمكانه أن يتجول في أحيائها التراثية القديمة وحضور أمسية شعرية أو محاضرة ثقافية في مركز الشيخ إبراهيم وتصفح الجرائد المحلية قديمها وحديثها في بيت عبدالله الزايد، والاطلاع على الحرف اليدوية في بيت الكورار، كما يمكن للطفل أن يستمتع بقراءة القصص والمجلات في مكتبة اقرأ، ومن ثم تناول طعام الغداء أو العشاء في مطعم الزعفران، ويتوج رحلته بشرب الشاي في بيت القهوة.. باختصار يمكنك أن تفعل كل شيء في هذا المسرح التراثي الواسع.
ويمكن للزائر أن يحلق في تراث البحرين وتاريخها الضارب في القدم، ويعيش حالة من التماهي مع ثقافة المكان، وله أن يلمس روح المحرق وقلبها النابض فقط من خلال وجوده وسط أحيائها وبيوتاتها.
قهوة بو خلف
ويتداخل المشهد ويتكامل بتفاصيله مع قهوة بوخلف، التي تحتل موقعها عند المدخل المؤدي للبيوت التراثية، فمثلما حرصت إدارة مركز الشيخ إبراهيم على افتتاح بيت القهوة ليشكل استراحة لزوار المكان، جرى تجديد مقهى شعبي آخر «قهوة بو خلف» يقدم الشاي والنخي والباجلة والقيمة وغيرها من المشروبات والوجبات التقليدية.
يعود تاريخ هذا المقهى الشعبي إلى بدايات القرن الماضي، حيث احتل مكانته المرموقة لدى أهالي المحرق والبحرين عامة، الذين ارتبطوا بقهوة بوخلف لسنوات طويلة، عرفوها مكاناً يجمع المشتغلين باللؤلؤ والبحر، لسماع آخر الأخبار من مشارق الأرض ومغاربها، للحديث في السياسة والاقتصاد والفن والطرب، وكان تجديد المقهى بمثابة بث الروح في المكان واستحضاراً للتاريخ وشاهداً عليه.
وتأتي الحديقة المائية رغم بساطتها لتشكل منظراً فريداً وسط دواعيس المحرق، وتضفي على المكان انشراحاً لتصميمه المتقن، إلى جانب ركن المعلومات الذي يزود الزائر بكافة ما يحتاجه عن مدينة عريقة في تاريخها حاضرة بتفاصيلها اسمها المحرق.